السوريون والغرب… حكاية الشقاء
كلما أراد السوريون الإشارة إلى تجربة ونموذج “مجيد” في ذاكرتهم الوطنية الجمعية، عادوا إلى عقد الخمسينات، وإليه فقط. يتداولون أشياء مثل الاستقلال والتجربة الديمقراطية والحياة المدنية، يذكرون أنفسهم بما كان في بلادهم وقتها من صحافة حرة وتداول سلمي للسلطة، ما شهدوه من طفرة تحديث المُدن والاقتصاد الحر والتنمية المستدامة وقتئذ، ما عاشوه من سينما ومسرح وجودة في التعليم والصحة العامة وتحول البلاد إلى ملجأ للكثير من اللاجئين السياسيين القادمين من دول إقليمية شتى، وما قابلها من خلو سجون وطنهم من مُعتقلي الرأي. يقولون كنا نحيا في ظلال دستور يلبي متطلبات العصر، شركات وطنية عالية الإنتاجية والقدرة على خلق قيمة مضافة حقيقية للفضاء الوطني. وهكذا.
لأسباب شديدة التركيب، يستنكف السوريون عادة عن ذكر وتحليل الأسباب الموضوعية التي أدت لانبلاج هذه التجارب الاستثنائية في تاريخهم المعاصر، ولا يستسيغون عموماً تفكيك تلك الظاهرة أبعد ما هي عليه مباشرة، كصورة للذات، تجبر خاطرهم المكسور بكل الوقائع والهزائم والانكسارات التي حلت بهم فيما بعد. عوضاً عن ذلك، يفضل السوريون القول لأنفسهم: إن تلك التجارب الزاهية، على قلتها ورغم استثنائيتها، هي ذاتنا الحقيقية، التي مُرغت لاحقا.
السوريون والغرب
لقرابة ثلاثة أرباع القرن، منذ أن هيمن “الخطاب الناصري” على سوريا في أواخر الخمسينات، وما تلاه من “فيض التقريع في البلاغة البعثية”، تعامى السوريون عن الخيط الجامع بين كل ما كان “مجيداً” في تاريخهم وذاكرتهم والغرب، بكل ما يعنيه من فضاء وقيمة وأدوات وشكل حياة وقاموس للاستدلال على الأشياء والمعاني، كان السوريون وقتئذ إيجابيي التعامل معه، يعتبرونه ممثلاً لتطلعاتهم المستقبلية البهية.
طوال تلك التواريخ، رفض السوريون الإقرار بأن مجموع المؤسسات والأجهزة والمواثيق والقوانين والفضاءات السورية التي أفرزت تلك التجارب النادرة كانت من صناعة الغرب تماماً، ومزيجاً من فروض مرحلة الاستعمار الفرنسي، وواقع اندماج المحلي السوري بالكل العالمي/الغربي عبر الشرط الاستعماري. حتى النُخب السياسية والاقتصادية السورية، وجزئياً الثقافية والاجتماعية منهم، كانوا نتاج ذلك المناخ الاستعماري/الغربي، النُخب التي راكمت الدراسة الأكاديمية بالمصالح المتداخلة والتواصل اللغوي والاندماج القيمي مع الغرب.
عبر توليفة نفسية وسياسية مزجت المكابرة بالفوقية القومية، أنكر السوريون طوال ثلاثة أرباع القرن تلك الحقيقة الواضحة، منذ العهد الناصري مروراً بموازيه البعثي. أزالوها عن كل تفسير وتحليل لما حدث في بلادهم طوال تاريخهم المعاصر.
الأنظمة الشمولية التي حكمت سوريا
وفي أفضل الأحوال أحالوها إلى ما هو غير مُقر أو مُفكر به. لكن الفداحة الأكبر تأتت من رفضهم تفسير ما حلّ ببلادهم فيما بعد، من استبداد وانقطاع عن الحداثة وتراجع تنموي ورداءة في نوعية الحياة، كنتيجة حتمية وواضعة للجذر الأول، المتمثل في الانقطاع عن الغرب منذ العهد الناصري، بكل ما يمثله هذا الغرب من أدوات وقيم وفضاءات.
الأنظمة الشمولية التي تعاقبت على حكم سوريا كانت صاحبة مصلحة رئيسة في ذلك، لتأسيس أشكال من الحكم المركزي/الاستبدادي، المُهيمن عليه من شخص وتيار سياسي دون غيره، لكن النخب السورية طابقت أنظمة وطبقات الحكم في نزعتها تلك، واندرجت بأغلبيتها المُطلقة في مواجهة جذرية مستدامة مع ما تعتبره “مصدرا لكل شر”، الغرب. لغير صدفة، كان البعثيون السوريون يطابقون الشيوعيين والإسلاميين والسوريين القوميين، إذ لم يُجمع السوريون على شيء مثلما تشابهوا في هذا الأمر.
اقرأ أيضا:البعث يسبر رأي الرفاق حول الاستئناس الحزبي
كان السوريون أكثر من وقع في “المطب” الذي حذر منه التحديثي التونسي الطاهر حداد منذ عقود كثيرة، إذ نبه في مجمل كتاباته من خطورة أن تتحول المناهضة السياسية للدول الغربية في المرحلة الاستعمارية إلى “مناهضة الغرب”، بكل ما يمثله من قيمة مضافة للمجتمعات الناهضة. فالمجتمعات السورية، ممثلة في نخبها السياسية والثقافية، غرقت في خطاب تقريعي وأفكار مقتضبة وتهمٍ جاهزة ورؤية بخيلة تجاه الغرب، احتكرته كجهة متآمرة ومناهضة لها ولمصالحها، فساهمت في هذه القطيعة المدمرة.
هل انتهت تلك الحقبة من “المواجهة الخاوية” مع انهيار “البؤس الأسدي؟
لا تُظهر المؤشرات شيئا من ذلك، فاستمرار تلك “المواجهة الخاوية” تبدو مصلحة مشتركة بين السلطة الجديدة، المحتاجة لـ”عدو وظيفي”، والنُخب التي تبدو جعبتها خاوية من إمكانية تقديم ما هو مختلف وله قيمة لمجتمعاتها المحلية. أشياء مثل الإعلان الدستوري وتشكيلة الحكومة الانتقالية وسيمياء الحاكمين وخطابات النخب السورية تثبت ذلك، لكن وقائع السوريين اليومية تقول إن استمرار الأمر على ما هو عليه في هذه “المواجهة الخاوية”، لن يعني بالنسبة للسوريين إلا مزيدا من الشقاء.
المجلة
صفحة الفيس بوك:https://www.facebook.com/narampress