المنطقة الاقتصادية السورية تضع الحكومة بين نارين
على مدى العقدين الماضيين المنطقة الاقتصادية السورية حولت اكتشافات الغاز الطبيعي حوض شرق البحر الأبيض المتوسط إلى منطقة فرعية متنازع عليها بشدة. ولكن من مصلحة الحكومة السورية مقاومة الانجرار إلى المحاور المتنافسة.
تحتاج الحكومة السورية إلى اتباع دبلوماسية حاذقة واتخاذ قرارات صعبة، بل وربما احتاجت في بعض الأحيان إلى مواجهة مبادرات يرغب أقرب حلفائها، أي تركيا، في تنفيذها– بما في ذلك توقيع اتفاقية منطقة اقتصادية خالصة.
المنطقة الاقتصادية السورية
يُعتقد أن المياه الإقليمية السورية تحتوي على احتياطيات كبيرة غير مستغلة من الغاز الطبيعي، تضاهي التكوينات الغنية بالموارد الموجودة قبالة سواحل مصر وإسرائيل وقبرص. وعلى الرغم من عدم وجود تقديرات مؤكدة لحجم هذه الاحتياطيات، فإن تقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية لعام 2025 تشير إلى احتمال وجود ما يصل إلى 3.3 مليار برميل من النفط و80.3 تريليون قدم مكعب من الغاز في حزام زاغروس، الذي تقع فيه سوريا.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2024، أعلن وزير النقل التركي عبد القادر أورال أوغلو عن عزم أنقرة التفاوض مع الحكومة السورية الجديدة بشأن المنطقة الاقتصادية الخالصة، وهو ما يشير إلى نية تركيا الاستفادة من تغيير الحكومة في دمشق وعكس سياسات عهد الأسد التي همشت مطالبات تركيا البحرية ومنحت الشركات الروسية والهندية حقوق التنقيب في البحر.
اقرأ أيضا:وزير النفط يبرر فشل توزيع المحروقات
لا ريب في أن اتفاق المنطقة الاقتصادية الخالصة بين تركيا وسوريا سيعود بالنفع على تركيا ويوسع نفوذها في شرق البحر الأبيض المتوسط، ويغير التوازن الجيوسياسي لصالح تركيا. أما بالنسبة لسوريا، فإن المخاطر الناجمة عن مثل هذا الاتفاق ستفوق الفوائد المرجوة. ففي حين تحتاج البلاد إلى توليد مصادر دخل محلية للمساعدة في تعافيها، فإن القيام بذلك عبر طريق المنطقة الاقتصادية الخالصة قد يضر بالدعم الدولي لإعادة إعمار البلاد. وفي حين أن تركيا ستضع الاتفاقية في إطار تأكيد شرعي لحقوقها، فإن القوى الإقليمية مثل الاتحاد الأوروبي واليونان وقبرص ومصر ستعتبرها خطوة استفزازية وغير قانونية من جهة تركيا، لأنها لن تأخذ بعين الاعتبار المياه الإقليمية لقبرص، وستزيد من حدة التوتر في بيئة مضطربة بالفعل.
لذاك، سيتعين على القيادة السورية أن توازن بين طموح تركيا في التوقيع على منطقة اقتصادية خالصة وبين هدفها الخاص المتمثل في تأمين دعم الاتحاد الأوروبي المطلق والاحتفاظ به. ومن المرجح أن يؤدي التوقيع على منطقة اقتصادية خالصة مع تركيا إلى تعريض النوايا الحسنة التي يبديها الاتحاد الأوروبي حيال الحكومة السورية الجديدة للخطر، مع ما يمكن أن ينتج عن ذلك من بطء في مسار رفع العقوبات، وتخفيض مستوى الدعم الدبلوماسي، وردع شركات الطاقة الأوروبية عن الاستثمار في النطاقات البرية والبحرية، فمن غير المرجح أن تستثمر شركات الطاقة في مشاريع النفط أو الغاز البحرية دون وجود وضوح قانوني بشأن الجهة التي تسيطر على المنطقة. فغموض الحدود البحرية يشكل مخاطرة كبيرة للغاية.
لعبة تركيا في مجال الطاقة والمنافسة في شرق المتوسط
تُحرك طموحات أنقرة في شرق البحر الأبيض المتوسط جملة من الدوافع الاستراتيجية، في مقدمتها سعيها لتأمين مصادر جديدة للطاقة، وتعزيز مكانتها كدولة عبور رئيسة بين آسيا الوسطى وأوروبا، وتكريس نفوذها الإقليمي. وفي هذا السياق، تبدو اتفاقية ترسيم الحدود البحرية المحتملة مع سوريا امتدادا طبيعيا لاتفاق ترسيم الحدود الذي أبرمته تركيا مع حكومة الوفاق الوطني في ليبيا عام 2019، والذي رسم منطقة اقتصادية خالصة تمتد من السواحل الجنوبية لتركيا إلى شمال شرقي ليبيا. وقد اخترق ذلك الاتفاق المياه التي تطالب بها كل من اليونان وقبرص، وجاء في إطار استراتيجية أوسع تسعى من خلالها أنقرة إلى تقويض تحالف الطاقة المتنامي بين اليونان وقبرص وإسرائيل ومصر.
اقرأ أيضا:زيارة الوفد اللبناني لترسيم الحدود البحرية لم تُلغ وسيُتفق عليها لاحقاً
في المقابل، نسجت هذه الدول الأربع تحالفا استراتيجيا في شرق المتوسط، مدفوعا بمصالح متداخلة في مجال الطاقة ورغبة مشتركة في ترسيخ الاستقرار الإقليمي. ويتمحور تعاونها حول تطوير وتصدير الغاز الطبيعي، عبر مشاريع كبرى أبرزها مشروع “خط أنابيب شرق المتوسط”، الذي يُقترح أن يربط حقول الغاز في إسرائيل وقبرص بالأسواق الأوروبية عبر الأراضي اليونانية. وتؤدي مصر، بما تمتلكه من بنية تحتية متقدمة لتسييل الغاز، دورا محوريا كمركز لمعالجة الغاز وإعادة تصديره.
غير أن التوترات البحرية بين تركيا من جهة، واليونان وقبرص من جهة أخرى، لا تزال تلقي بظلالها الثقيلة على هذه الجهود، إذ تُعقد عمليات الاستكشاف والتطوير، وتغذي صراعا أوسع حول من يملك مفاتيح ممرات الطاقة نحو أوروبا.
الخصومات القديمة والنزاعات الحديثة
يعود التنافس بين تركيا واليونان إلى نزاعات إقليمية تاريخية، إلا أن حدته تصاعدت في السنوات الأخيرة بسبب سباق التنقيب عن الطاقة في شرق المتوسط. ويتمحور هذا التنافس حول الخلافات على ترسيم الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية الخالصة. ففي حين تستند اليونان إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار(UNCLOS) لتأكيد حق جزرها– بما في ذلك الصغيرة منها– في امتلاك مياه إقليمية ومنطقة اقتصادية خالصة، تتبنى تركيا مبدأ “الإنصاف”، الذي ينص على أن الجزر لا ينبغي أن تتمتع بالأثر الكامل في ترسيم الحدود البحرية إذا كان موقعها الجغرافي القريب من البر التركي من شأنه أن يؤدي إلى نتائج غير متكافئة أو مجحفة. وقد أدى تمسك تركيا بهذا المبدأ إلى نزاعات مباشرة مع كل من اليونان وقبرص، لا سيما في المناطق البحرية الغنية بالموارد.
من جهة أخرى، لا تعترف تركيا بالمنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص، بحجة أن جمهورية قبرص لا تمثل مصالح الطائفة القبرصية التركية. ونتيجة لذلك، قامت أنقرة بنشر سفن مسح زلزالي وسفن مرافقة بحرية في المياه الإقليمية لقبرص، في خطوة تؤكد نية أنقرة في تحدي النظام القائم لتقاسم موارد الطاقة في المنطقة.
ترسيم الحدود مع قبرص
وما لم تقم سوريا بترسيم حدودها البحرية مع قبرص وتثبت حقوقا واضحة على منطقتها الاقتصادية الخالصة، فإنها ستخاطر بمخالفة اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار واستعداء اليونان وقبرص ومصر. ومع ذلك، فإن التوصل إلى اتفاق مع قبرص من شأنه أن يوتر العلاقات مع تركيا في وقت تعتمد فيه سوريا على جارتها للحصول على دعم حاسم. وسيتطلب تحقيق التوازن بين هذه المصالح المتنافسة دبلوماسية حذرة لتجنب تنفير الشركاء الرئيسين.
وعلى مدى العقدين الماضيين، حولت اكتشافات الغاز الطبيعي حوض شرق البحر الأبيض المتوسط إلى منطقة فرعية متنازع عليها بشدة. ولكن من مصلحة الحكومة السورية مقاومة الانجرار إلى المحاور المتنافسة بين تركيا واليونان وقبرص ومصر. وإلا فإن تطورها السياسي ووتيرة إعادة الإعمار يمكن أن يتعرضا للخطر. وفي الوقت الحالي، تحظى القيادة السورية بدعم تركيا والاتحاد الأوروبي والشركاء الدوليين الآخرين، ولكن التسرع في إبرام اتفاق المنطقة الاقتصادية الخالصة الآن قد يدفع سوريا إلى الاصطفاف مع طرف واحد من منافسة إقليمية طويلة الأمد، بينما هي في أمسّ الحاجة إلى الحفاظ على دعم مجموعة من الشركاء الدوليين وتوسيع نطاقه. وقد يكون من الأجدى لسوريا أن تتبنى نهجا أكثر ترويا يمكن قادتها من حماية المكاسب الدبلوماسية الأخيرة وإبقاء الباب مفتوحا لتطوير الطاقة في المستقبل في ظل ظروف أكثر ملاءمة.
المجلة
صفحة الفيس بوك:https://www.facebook.com/narampress?locale=ar_AR