جرأة الدراما تحرج الإعلام!
جرأة الطرح ليست جديدة على الدراما السورية، في وقت يفرض الظرف العام في سوريا نهوضاً إعلامياً شاملاً وليس درامياً فقط يرتقي إلى مستوى الخطر المحدق بالبلد. إذ إن الإعلام يستطيع أداء دور محوري، لكنه دور غائب أو مغيَّب.
لم يحظَ عمل درامي سوري بجدل وأحدث انقساماً حاداً بين مؤيد ومعترض عليه، كما حظي “كسر عضم” للمخرجة رشا شربجي والكاتب علي معين صالح. مؤيد يقول بضرورة تسليط الضوء على الفساد في مختلف القطاعات، حتى الممنوع الاقتراب منها عادة، وأدى إلى ما تعيشه سوريا من فقر وترهُّل مؤسساتي وتراجع، تعليمياً وقضائياً وحقوقياً.. ومعترض يقول إن العمل يسيء إلى السوريين، ويبالغ في تصوير حالات انتشار المخدِّرات والدعارة والفساد في التعليم والسكن الجامعي، وحتى الحواجز وتجارة الأعضاء. أكثر من ذلك يحاجّ في أنه لو كان ما جاء في العمل صحيحاً لما صمدت سوريا طوال الأعوام الماضية من عمر الحرب.
بصرف النظر عن الجوانب الفنية للعمل، إخراجاً وتمثيلاً، ثمة نجاح لا يمكن إغفاله حققه المسلسل، يستند أساساً إلى السقف العالي الذي لامسه النص في مقاربته قضاياً يُعَدّ من المحرَّمات الخوض فيها: الفساد عند الحواجز وأداء أساتذة جامعيين وبيع الأعضاء وتدخُّل شخصيات نافذة في تنقُّل حتى ضباط أمنيين. وربما هذا شكّل المحرك الأساس لحال الجدل الواسع والعميق بين مختلف أطياف المجتمع السوري، وحتى بين نواب وسياسيين وقياديين في حزب “البعث”، تأييداً أومعارضة له.
جرأة الطرح ليست جديدة على الدراما السورية، بل اعتمدتها منذ عقود، وبتشجيع عالي المستوى، أعمالُ دريد لحام ومحمد الماغوط، ثم “مرايا” ياسر العظمة و”بقعة ضوء”، وامتد كل عمل منهما أكثر من 15 عاماً متتالية، في المقاربة، بالإضافة إلى غيرهما الكثير من الأعمال.. لكنها جرأة تتَّسم بالموسمية، إن جازت التسمية، وانحصرت دوماً في الأعمال الدرامية الرمضانية، ولم تنتقل إلى الإعلام الأكثر حاجة إليها، وصاحب الدور الأجدى في مقاربة قضايا الفساد، وتضميد جراح الحرب العميقة، وتوسيع قاعدة حوار سياسي ومجتمعي جدي ومنتج، يجترح حلولاً ولا يكتفي بالتوصيف، أو ترداد ما تقوله الحكومة كرجع للصدى.
الظرف العام في سوريا يفرض نهوضاً إعلامياً شاملاً يرتقي إلى مستوى الخطر المحدق بالبلد، لم يعد يتعلّق بتحويل مكافحة الفساد إلى عناوين بشأن اختلاس مدير أو موظف صغير، أو صفقات تهريب تم ضبطها، على نحو كانت تشكل أيُّ قضية منها قضيةَ رأي عام قبل عقدين أو ثلاثة.
اليوم، تحوّل الخطر إلى ما يشبه سرطاناً يواجه السوريين له منظومته وحماته ومستفيدون منه، لا تكفي المواجهة التقليدية كنشر تقارير تفتيشية، الجهد فيها أساساً للأجهزة الرقابية الرسمية، أو تحويل الأصوات الغاضبة إلى صرخات في مواقع التواصل الاجتماعي، وهذه غالباً ما تتسم بالانفعال والآنية والشخصانية، ولا حتى تسليم المهة إل الدراما على الرغم من أهميتها. وكذا الأمر عبر طرح نقاشات واسعة وجدية وعميقة تتسع لكل السوريين، وتؤسس مرحلة تطوي فعلياً العشرية الماضية على أسس دولة القانون والمواطنة والعدالة والمحاسبة.
هذه مهمّات يستطيع الإعلام أداء دور محوري فيها، بل مطلوب منه أداء هذا الدور، كما الأحزاب والنقابات والهيئات ومنظمات المجتمع المدني، لكنه دور غائب أو مغيَّب في الإعلام السوري ربما بسبب جسامة المهمة وخطورتها، وهذه تتطلب جرأة من العاملين في المهنة، وحاجة الإعلام أيضاً إلى كسر الصورة النمطية لدوره في الترويج لمهمّات الحكومة والوزارات وزيارات المسؤولين… إلخ.
منطق الأمور وحجم ما تواجهه سوريا يفرضان خروج المنظومة الإعلامية من الذهنية وآلية العمل القديمتين، في ظل تدفق المعلومات الرهيب حتى في أدق تفاصيل الشأن الداخلي السوري في مواقع التواصل الاجتماعي. فألّا تنقل وسائل الإعلام الرسمية، وحتى الخاصة، على قلتها، كثيراً من الأخبار أو تفاصيل تلك الأخبار، لا يعني أنها لم تحدث، أو أن السوريين لا يطّلعون عليها. هناك مواقع إلكترونية ووسائل إعلام في الخارج تتولي المهمة بإحترافية عالية، وتستقطب الجزء الأوسع من المتلقّين. هذا الانكفاء لا يتعلق فقط بمقدرات الصحافيين والعاملين في المهنة، بقدر ما يتعلق بقائمة المسموح والممنوع في مقاربته، أو حتى درجة هذه المعالجة، حتى يتحول الجدل على مدى أشهر بشأن حضور هذه السلعة أو تلك، وتأخر رسالة البنزين، وبقاء الدعم أو رفعه، والأخطاء الكبيرة في تطبيقه… إلخ.
تحضر كل هذه الأسئلة وأكثر مع خوض الدراما السورية هذا العام في ملفات شائكة، بصرف النظر عن حجم المبالغة فيها، لتثير الشجون في ضعف أداء الإعلام السوري، وهو المؤهّل لقيادة حراك واسع نحو ترسيخ حوار وطني شامل في كل العناوين الضاغطة، سياسةً وثقافةً واقتصاداً وأمناً. وبالتأكيد، عندما يرى السوري قضاياه حاضرة في إعلامه، لن يذهب بحثاً عنها في مواقع التواصل الاجتماعي، ولا في إعلام الآخرين.
المهمة صعبة، لكنها ليست مستحيلة. والأهم أن كثيرين من العاملين في المهنة يتوقون إلى أدائها كرسالة وشغف شخصيَّين يكملان أهميتها بالنسبة إلى المتلقي وللدولة بصورة أوسع، وكواجب على الصحافي في ظل ما يعيشه وطنه. مهمة تعيد الألق إلى الإعلام السوري كلاعب أساسي في الحياة العامة والمعارك السياسية، كما كان بعد عهد الاستقلال في خمسينيات القرن الماضي.
الميادين نت – محمد الخضر