عرش الكرة بلا ملك
بيروت..
بروحه الجميلة أراد فعلها بلا شك، لكن أي نجمٍ برازيلي أو عالمي لم يكن ليجرؤ على طلب تاج الملك.
الملك، هو اللقب الذي التصق به طوال حياته، ولم يكن هناك أي مبالغة فيه، فهو حَكَم كرة القدم لسنواتٍ طويلة، وبقي ملكاً على عرش قلوب محبيها بعد اعتزاله وحتى اليوم الأخير لرحيله عن هذه الدنيا.
كيف لا يكون محبوباً عند الجميع، فالجيل القديم استمتع بقدراته ومهاراته وأهدافه الخرافية، والأجيال التي تلت خالجها شعور مختلف في كلّ مرةٍ قابلها فيها بابتسامةٍ عريضة ومحببة.
هو كان مختلفاً في كل شيءٍ فعله منذ اليوم الأول الذي قدّم فيه نفسه إلى عالم المستديرة. بفضله أصبح القميص الرقم 10 هو الأهم في أي فريقٍ أو منتخبٍ، إذ أعطى هذا الرقم قيمةً لا تضاهيها قيمة أي رقمٍ آخر.
أهم نجمٍ أسمر
بيليه أيضاً غيّر من مفاهيم المجتمع العالمي ـ العنصري ـ بعدما أصبح أهم نجمٍ عالمي أسمر البشرة، فكان بحق «الجوهرة السوداء»، ليغيّر مفاهيم البرازيل ومنتخبها لناحية منح رفاقه الفرصة لارتداء قميص «السيليساو» من دون إعارة أي اهتمامٍ إلى لونهم، أو أي من المعايير التي كان يفرضها بعض العنصريين.
الملك كان فعلاً مغيّر المفاهيم والقواعد وكاسر التقاليد على مختلف الأصعدة، بدايةً من المنتخب البرازيلي نفسه عندما أضحى أصغر هدافيه بوصوله إلى الشباك في سن الـ 16 عاماً و9 أشهر. هو أصلاً أعطى أملاً لكل اليافعين حول العالم كمراهقٍ بطل عندما صار أصغر فائزٍ بكأس العالم، وأصغر مسجلٍ في مباراةٍ مونديالية، والأصغر الذي يحقق «هاتريك»، والذي يسجل هدفين في نصف النهائي. كما كان أصغر لاعبٍ يخوض نهائي المونديال ويسجّل فيه.
قدماه أعطت جمالاً للعبة، وكلماته بعد اعتزاله أعطت قيمةً لها فهو لم يسميها كرة القدم بل أطلق مصطلحاً خاصاً به في كل مرّة تحدث عنها بتسميتها «اللعبة الجميلة».
هي أصبحت جميلة بفضله منذ منتصف الخمسينيات وحتى أواخر السبعينيات، إذ يكفي تسجيله 1279 هدفاً في 1363 مباراة، ليكون فعلاً أسطورةً، جعلت الكثيرين يقولون بأنه النجم الأفضل في القرن العشرين، وهو ما اعترفت به منظمات كروية كبرى على مدار عقودٍ من الزمن ومنها المرجعية الأولى أي «الفيفا». طبعاً هو كان سفيراً فوق العادة للاتحاد الدولي لكرة القدم، لا بل أنه سمّي في عام 1994 سفيراً للنوايا الحسنة في «اليونيسكو»، وسط آمالٍ بأن يساعد العالم تماماً كما ساعد زملاءه على أرضية الميدان برؤيته الخارقة ومهارته في صناعة الألعاب والتمرير، التي أضافها إلى موهبته الإلهية في المراوغة والتسجيل، فتحوّل ملهماً في المستطيل الأخضر وخارجه.
كان بيليه بحق «الجوهرة السوداء» بتغييره المفاهيم الاجتماعية وبتحوّله رمزاً للنصر عند الفقراء
البطل الخارق
بالفعل لا أحد كان بإمكانه هزيمة بيليه، ففي أي فيديو له تشعر وكأنه قادم من عالم الرسوم المتحركة التي اقتبسته أصلاً كنجمٍ خارقٍ يمكنه فعل أشياء لا يمكن أن يفعلها سوى الأبطال الخرافيين. هذا ما قاله بشكلٍ أو بآخر أحد أبرز اللاعبين الذين مروا في تاريخ اللعبة وهو الهولندي يوهان كرويف: «بيليه هو لاعب كرة القدم الوحيد الذي تخطى حدود المنطق».
أما النجم المجري السابق فيرينك بوشكاش، فأجاب عند سؤاله يوماً عن أفضل لاعبٍ في التاريخ: «إنه ألفريدو دي ستيفانو لأنني أرفض تصنيف بيليه كلاعب فهو أعلى من ذلك». وذهب هداف كأس العالم 1958 الفرنسي جوست فونتين إلى أبعد من ذلك عندما قال: «عندما رأيت بيليه يلعب شعرت أنه يفترض عليّ اعتزال اللعبة».
كرة القدم خُلقت لأجل هذا اللاعب الساحر كما قال بطل مونديال 1966 الإنكليزي «السير» بوبي تشارلتون، فهو سبق عصره ليصبح الاسم المرادف للعبة الشعبية الأولى، ورمز النصر للفقراء، والأمل لكل الأجيال التي قدمت من بعده، حيث لم تفرز أي منها بيليه آخر.
طبعاً جاء الأسطورة الأرجنتيني دييغو أرماندو مارادونا وخليفته ليونيل ميسي، ومرّ البرازيلي رونالدو وغيره من أبناء جلدته المبدعين. فرح بهم وأشاد بهم «الملك»، لكن بقيت صورته نجماً متنقلاً على أرض الملعب بخفة الريشة راسخة في الأذهان، تماماً كابتسامته اللطيفة التي عكست على وجهه صورة رجل لم يغضب يوماً ولم يشاغب يوماً ولم يتعمّد العنف يوماً رغم معاناته منه من قبل المدافعين الجزارين.
قد يكون أتى من هو أفضل منه أو قد يأتي من يتخطاه موهبةً، لكن مسألة حتمية لا لبس فيها وهو أن بيليه خالدٌ ولن يتكرر لا بشخصيته ولا بموهبته، وسيبقى السؤال قائماً في كل مرّةٍ ادّعى فيها أحدهم بأنه الأفضل بالقول: «شو مفكّر حالك بيليه؟».
الاخبار اللبنانية