اخترنا لكممش عيب

عرض حسني الزعيم لتوطين 300 ألف فلسطيني 

إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن رغبته في إقامة “ريفييرا الشرق الأوسط” في غزة أثار موجة من الانتقادات في العالمين الإسلامي والعربي، لأنه ترافق مع كلام عن إفراغ القطاع من سكانه الأصليين.

وقد تداولت بعض وسائل الإعلام أن الإدارة الأميركية ترغب بتوزيع مليون ونصف المليون مواطن فلسطيني على مصر والأردن وسوريا، بحيث تكون حصة كل واحد منهم 500 ألف لاجئ. للمفارقة التاريخية، يصادف هذا الشهر ذكرى بدء الجولة الأولى من المفاوضات السورية– الإسرائيلية المباشرة، التي انطلقت بعد أسابيع من نجاح انقلاب حسني الزعيم على الرئيس شكري القوتلي سنة 1949.

وفي هذه المفاوضات، عرض الزعيم على إسرائيل توطين 300 ألف مواطن فلسطيني في سوريا مقابل الحصول على دعم مالي وعسكري من الولايات المتحدة الأميركية. وهنا يجب الإشارة إلى أن عدد اللاجئين الفلسطينيين يومها، وبحسب منظمة “UNRWA” بلغ 750 ألفا، جاء 160 ألفا منهم إلى سوريا، وتوزعت البقية على الدولة العربية. استوطن 16 ألفا منهم في سهل حوران، ونزل 70 ألفا في العاصمة دمشق، بينما انتشرت البقية في سائر المدن السورية، وهذا يعني أن حسني الزعيم عرض زيادة عدد الفلسطينيين في سوريا إلى 460 ألفا سنة 1949.

الوفد السوري المفاوض

في أبريل/نيسان 1949 وتحت رعاية الأمم المتحدة، بدأت مفاوضات الهدنة في خيمة نصبت في منطقة منزوعة السلاح على الحدود السورية– الفلسطينية، بعد أسبوع واحد من تسلم الزعيم مقاليد الحكم في دمشق. خوفا من أنْ يتهمه أحد بالخيانة، وإصرارا منه على أن يثبت للناس أنه ليس أقل وطنية وإخلاصا من شكري القوتلي، أصر الزعيم على أن هذه المفاوضات هي مجرد استراحة محارب، ولا تعني توقف الحرب مع إسرائيل.

ضم الوفد السوري المفاوض آنذاك أمين عام وزارة الخارجية السورية الدكتور صلاح الدين الطرزي، والضباط محمد ناصر، وفوزي سلو، وعفيف البزري. في سنواتٍ لاحقة أصبح سلو رئيسا للدولة السورية سنة 1951، وتقلد البزري رئاسة الأركان العامة في نهاية الخمسينات، أما محمد ناصر فقد عين مديرا للكلية الحربية ثم آمرا لسلاح الطيران. وكان صلاح الدين الطرزي المدني الوحيد بين وفد المفاوضين وهو من خيرة القانونيين العرب، درّس في جامعة “القديس يوسف” في بيروت، وجامعة “ليون الفرنسية”، وعمل مدرسا في كلية الحقوق في الجامعة السورية، كما تسلم مهمات دبلوماسية عدة، منها سفير سوريا في موسكو مرتين: الأولى في عهد القوتلي، والثانية في عهد الدكتور نور الدين الأتاسي. وأخيرا عمل سفيرا في تركيا قبل انتخابه عضوا في محكمة العدل الدولية في لاهاي، وهو المنصب الذي بقي فيه حتى وفاته إثر حادثٍ أليم عام 1980. وعلى الرغم من قلة الود بينهما، أصر الزعيم على وجود الطرزي مع الوفد المفاوض، للاستفادة من خبرته القانونية الواسعة، ولإضفاء شرعية مدنية على حكمه العسكري، وعلى العمل الذي كان ينوي الإقدام عليه مع إسرائيل.

 

هدنة سبقت مفاوضات السلام

عقدة المفاوضات كانت في موقف الرئيس القوتلي المثبت في أوراق ومذكرات الخارجية السورية للأمم المتحدة، الرافض التنازل عن منطقة الجليل، وكامل بحيرة طبريا. صرح الزعيم سرا أمام الوزير الأميركي المفوض في دمشق جيمس كيلي، بأن هذا الكلام لا يعنيه، وأنه على استعداد لنسف موقف القوتلي، والتنازل عن الجليل، ومشاركة الإسرائيليين ببحيرة طبريا وإعطاء نصفها الغربي للدولة العبرية والشرقي لسوريا.

 

رفضت إسرائيل العرض، لأنها كانت بأمسّ الحاجة لمياه طبريا، لكونها مورد الماء الوحيد لديها، وكانت تعول عليه الكثير في تطوير صحراء النقب وتأهيلها. اتفق الطرفان على خطوط وقف إطلاق النار، وأن تصبح هي نفسها خط الهدنة، على أن تمر على المسافة ذاتها التي تفصل بين خطي القتال، وأن تصبح المنطقة بين حدود سوريا وإسرائيل منطقة منزوعة السلاح. كما اتفقا أيضا على أن تعود الحياة المدنية إلى المنطقة العزلاء، وأن يعود السكان العرب إلى قراهم تحت إشراف رئيس لجنة الهدنة، الدكتور الأميركي رالف بانش.

خلال فترة المفاوضات الممتدة من أبريل وحتى يوليو/تموز عام 1949، حصل 19 لقاء بين وفدي سوريا وإسرائيل، تخللتها 500 مذكرة احتجاج من الجانب السوري. وقعت اتفاقية الهدنة في 20 يوليو 1949، واعتبرها السفير الإسرائيلي إتامار رابينوفتش “اعترافا مبكرا” بالدولة العبرية من قبل حكومة دمشق، وذلك في كتابه “الطريق الذي لم يسلك” الصادر عن “جامعة أوكسفورد” سنة 1991. وبالفعل فإن اعتراف حسني الزعيم بدولة إسرائيل جاء قبل ثلاثة عقود من اعتراف مصر في عهد الرئيس أنور السادات.

عرض حسني الزعيم

توقفت مفاوضات الهدنة لشهر كامل في مايو/أيار 1949، بسبب اعتراض صلاح الدين الطرزي على ممارسات إسرائيل، وخلال هذه الفترة عرض الزعيم على إسرائيل مشروعا متكاملا مؤلفا من ثلاث نقاط:

– عقد لقاء قمة بينه وبين ديفيد بن غوريون، في دمشق أو تل أبيب أو أي مكان آخر يتم التوافق عليه بينهما.

– التوصل إلى اتفاقية سلام تنهي الصراع الدائر في الشرق الأوسط.

– توطين 300 ألف فلسطيني على نهر الفرات شمال شرقي سوريا مقابل دعم مالي وعسكري من الولايات المتحدة الأميركية.

كان هذا العرض مذهلا بالنسبة لإسرائيل، وقد فاق كل التوقعات الأميركية إذ تبين أنه الهدف الحقيقي من وراء مفاوضات الهدنة، التي سارع الزعيم إلى إطلاقها. كانت مفاوضات الهدنة مجرد مقدمة لاكتشاف معدن حسني الزعيم، وإعطاء إسرائيل الفرصة لتقويم أدائه ومدى جديته في طرح أفكار خلاقة، وقدرته على تنفيذها. كتب نائب دمشق فخري البارودي في أوراقه معلقا أن واشنطن عرضت على حسني الزعيم مبلغ 300 مليون دولار لتنفيذ المشروع في توطين 300 ألف لاجئ فلسطيني، ولكن الزعيم طلب 400 مليون. وفي ردها الأول على العرض السوري، قالت الخارجية الأميركية إن حسني الزعيم كان “إنسانيا في طرحه ورجل دولة في موقفه”.

بعث الزعيم برسالة إضافية إلى الأميركيين، طالبا منهم تقديم طلب رسمي لإنشاء قواعد عسكرية وجوية في الأراضي السورية للوقوف في وجه المد الشيوعي في البلاد العربية، وقال إنه سيوافق عليه على الفور. وفي 16 أبريل/نيسان 1949 استدعى وزير خارجيته الأمير عادل أرسلان وقال له: “دعنا ننهِ هذه القصة مع اليهود”! استغرب الأمير عادل هذا الطرح، ولم يخف اندهاشه، فاقترب منه الزعيم، وهمس في أذنه أنه يتعرض لضغوط كبيرة للاجتماع مع وزير خارجية إسرائيل موشي شاريت، مستفسرا عن مدى استعداد الأمير للقيام بتلك المهمة. قال الزعيم لأرسلان: “علينا ضغط شديد لمقابلة شاريت، ولا مناص لنا من عقد هذا الاجتماع”. كان شاريت يبدي استعداده للقاء، عكس رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون الذي قال: “يجب على إسرائيل أن تسأل نفسها دوما قبل مقابلة أي زعيم عربي: هل هو يمثل شعبه بحق؟ فاروق الأول هو مصر، ولكن من هو حسني الزعيم؟”

 

لقاء قمة مع بن غوريون

رفض بن غوريون العرض السوري، مشيرا إلى أنه غير مستعد للاجتماع مع الزعيم قبل انسحاب سوريا من مواقعها العسكرية، معلقا: “لن تكون هناك مباحثات في السلام أو في التعاون إلا بعد تعديل تلك الحدود، وبعدها نكون على جاهزية عالية لمناقشة كل شيء”. ثم أضاف: “أنا لست في عجلة، وإني مستعد لأن أنتظر 10 سنوات إضافية”. وعند إلحاح الدكتور أبا إيبان، ممثل إسرائيل في الأمم المتحدة، رد رئيس الوزراء الإسرائيلي: “لا أرى فائدة من هذا الاجتماع في الوقت الحاضر ما دام ممثلو سوريا في مفاوضات الهدنة لا يعلنون بصراحة أن قواتهم ستعود إلى نقاط ما قبل اندلاع الحرب”.

 

علق أحد مفاوضي الهدنة الإسرائيليين على عرض الزعيم قائلا: “السوريون يريدون توقيع اتفاقية سلام مباشر بدلا من هدنة، ويريدون تبادل سفراء بيننا وبينهم. الزعيم يرغب في السيطرة، وهو يعتقد أن هذا الأمر لا يتم إلا بتوحيد جهود الجيشين الإسرائيلي والسوري”. أرسل الزعيم أحد أعضاء الوفد السوري، وهو العقيد محمد ناصر للاجتماع بجوشوا بالمون، خبير الشؤون العربية في الوكالة الصهيونية، لترتيب اللقاء بينه وبين موشي شاريت. وفي هذا اللقاء السري جاء رد بن غوريون برفض القمة السورية الإسرائيلية، فانزعج الزعيم من هذا الموقف السلبي وقال: “لا فائدة من أي مبادرة إذن، فأساس التفاوض هو الأخذ والعطاء. عندما يجتمع الموظفون لا يستطيعون تقديم أي شيء دون الرجوع إلى حكوماتهم، وهم عادة يطالبون بأكثر مما هو مطلوب منهم أساسا. ولكن عندما يجتمع صناع القرار، يصبح الاتفاق ممكنا، في حال وضع مطالب لا يمكن رفضها”.

بدورها علقت الخارجية الأميركية على مبادرة الزعيم بالقول: “حسني الزعيم يريد حل المشكلة السورية الإسرائيلية بنحو مشرف وسلمي ليوجه كل طاقاته لنهضة سوريا وتطورها. هو يخاف أن يقوم أحد بانقلاب عسكري يؤدي إلى وصول السياسيين الرجعيين إلى الحكم فينسفون أي اتفاق أو مفاوضات مع إسرائيل”.

شاريت في دمشق

في الرواية الرسمية السورية والإسرائيلية، لم يحصل اللقاء بين حسني الزعيم وموشي شاريت، ولا ذكر له في الأرشيف البريطاني أو الفرنسي أو الأميركي، أو في مذكرات موشي شاريت. ولكن الكثيرين ممن عاصروا الزعيم، وعملوا معه خلال فترة حكمه القصيرة، أكدوا أن شاريت جاء بالفعل إلى سوريا لمقابلة الزعيم، ولكن بسرية تامة حفاظا على سلامته. سمعنا هذا الكلام من سهيل العشي مدير شرطة حلب، ومن هيثم الكيلاني مرافق حسني الزعيم، ومن سامي جمعة، أحد عناصر المكتب الثاني الذي قال إنه رأى شاريت بنفسه عندما كان يقوم بحراسة الزعيم، خلال وجوده في فندق بلودان في يونيو/حزيران 1949.

وبحسب رواية سامي جمعة، وصل شاريت إلى فندق بلودان برفقة المقدم إبراهيم الحسيني، قائد الشرطة العسكرية، وكان متنكرا بزي ضابط سوري، يرتدي بزة عسكرية برتبة “مقدم” ولكنها كانت مترهلة عليه، ما أثار شكوكه. كذلك كان احترام إبراهيم الحسيني لهذا الضابط المجهول يثير الاستغراب، حيث كان يتأخر عليه خطوتين أو ثلاثا، في وقت كان فيه الحسيني لا يهاب أحدا في سوريا، مدنيا كان أو عسكريا.

عاد سامي جمعة إلى دمشق، وقص على رئيسه سعيد حبي ما رأى في بلودان. أخرج حبي أضابير الضباط كلها، وكان عدد المقدمين في الجيش لا يتجاوز عشرين مقدما، وأربعة أو خمسة عقداء وثلاثة عمداء. طلب منه مراجعة الصور الشمسية لكل الضباط والتعرف إلى هذا الرجل المجهول، فقال له سامي جمعة إنه قطعا ليس من هؤلاء، فأخرج مدير الشعبة عددا من مجلة “نيوزويك” الأميركية، وأشار إلى صورة موشي شاريت، فتعرف سامي جمعة إليه على الفور.

قرر سعيد حبي التأكد بنفسه من هذه المعلومة الخطيرة، فتنكر بلباس عامل بسيط وارتدى ملابس الفلاحين و”حطة” عربية بيضاء، ووقف في حديقة الفندق، يجمع أوراق الشجر المتساقطة تحت الصالون، الذي كان الزعيم يستقبل فيه كبار زواره. في اليوم التالي جاء شاريت مرة أخرى لمقابلة الزعيم، الذي كان برفقة حارسه الشخصي النقيب رياض كيلاني. نظر سعيد حبي إلى الضابط الغريب وعرفه على الفور، قائلا: “هو موشي شاريت”!

عاد سعيد حبي إلى دمشق للاجتماع مع المقدم عزيز عبد الكريم، والمقدم محمود بنيان، والمقدم أديب الشيشكلي، وشكلوا وفدا رسميا لمقابلة الزعيم ومواجهته بالأمر. لم ينكر الزعيم القصة، بل أعرب عن انزعاجه من الضباط لتدخلهم في شؤونه، صارخا في وجههم: “هذه سياسة عليا للدولة، وأنتم كعسكريين محظورٌ عليكم التدخل في مثل هذه الأمور”!

بعد تقديم عرضه لإسرائيل، أرسل الزعيم اثنين من ضباطه إلى مقر المفاوضات، هما أكرم الديري وغسان جديد، وطلب منهما شرح الموقف لشابتاي روزين، المستشار القانوني في وزارة الخارجية الإسرائيلية. عقدوا اجتماعا سريا في يوم توقيع الهدنة، تلاه اجتماع آخر في مطلع شهر أغسطس/آب، جدد خلاله الزعيم العرض، ولكن بعد انتخابه رئيسا للجمهورية هذه المرة.

“عرض علينا الزعيم أن نلتقي، ولكن هذا الاجتماع لم يحدث، لأنه طلب أن نكون إما أنا وإما رئيس الحكومة. أرسلنا له أشخاصا مرموقين، ولكنه اعتبرهم أدنى منه رتبة ومكانة. مع ذلك فإن عرضه يدل على أنه يمتلك رؤية جدية أكثر من غيره، وأنه أكثر جرأة من الجميع، وهو يعلم حجم الامتيازات التي سوف يحصل عليها من قبلنا لو توصلنا إلى اتفاق”.

المجلة

صفحة الفيس بوك:https://www.facebook.com/narampress

Visited 5 times, 2 visit(s) today