اخترنا لكمعرب وغرب

هل نحن بحاجة إلى «يالطا جديدة» لوقف الحرب المقبلة

لم يتوقع أحد في العالم أن نتائج وثمار القمة الثلاثية التي استضافها قصر ليفاديا القريب من مدينة يالطا على البحر الأسود في الفترة من 7 إلى 11 فبراير 1945، أن تشكل «نموذجاً» لكيفية حل الصراعات، وتهدئة التوترات وبناء التفاهمات التي يمكن أن تنقذ العالم من أتون حروب عالمية، وتجلى ذلك عندما رسم ثلاثة من أكبر زعماء العالم آنذاك في يالطا ملامح «عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية»، تلك النتائج التي حافظت على السلام العالمي لأكثر من 50 عاماً حتى انهار أحد أضلاع هذا المثلث، وهو الاتحاد السوفييتي السابق بعد أن جمعت قمة يالطا الشهيرة الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، والزعيم السوفييتي جوزيف ستالين، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل.

وإذا كان المثل الروسي الشهير يقول: «القوي يفعل ما في وسعه، والضعيف يعاني ما يجب عليه» فإن قمة يالطا التي جاءت قبل نهايات الحرب العالمية الثانية بشهور قليلة وضعت إطاراً لما يمكن أن يكون عليه تقسيم النفوذ بين الأقوياء، واحترام مصالح الجميع وفق مصفوفة من التوافقات المشتركة التي تحول دون تحول الرغبات والنوازع البشرية في السيطرة والاستحواذ إلى حروب طاحنة، كما جرى في الحربين العالميتين الأولى والثانية.

هل نحن بحاجة إلى «يالطا جديدة»

لا يختلف حال العالم اليوم عما كان يحيط بقمة يالطا من تعقيدات وتشابكات ورغبة في تسوية الخلافات، والبحث عن مشتركات تستبعد خيار الحرب عندما تختلف المصالح، فها هي القارة الأوروبية تجد نفسها حالياً في مفترق طرق، وتحاول أن توازن بين علاقاتها المستقبلية مع روسيا والولايات المتحدة، والبحث عن هويتها الجديدة في الاعتماد على الذات، وما يحيط بهذا التوجه من عدم اليقين بشأن الخطوات المستقبلية، وهو الأمر الذي يجعل أوروبا تبحث خيارات كثيرة يخشى البعض أن تعود بالأوروبيين إلى أزمنة التشاحن والتطاحن التي كانت قبل الحرب العالمية الثانية، كما أن دولاً مثل الهند والصين والبرازيل لا يمكن النظر في خريطة المستقبل دون مراعاة مصالحها التي تتعاظم في خريطة المصالح العالمية، خاصة تلك المصالح التي تتعلق بالتجارة والاستثمار وسلاسل الإمداد، ويظل مستقبل دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، التي ارتبط مصيرها منذ أكثر من 80 عاماً بالولايات المتحدة، رهن ما يمكن أن تكون عليه البيئة الإقليمية والدولية المحيطة بتلك الدول التي ظلت طوال العقود الماضية ترسم علامات كبيرة على طريق السلام والاستقرار العالمي، ومع التوجهات الجديدة للإدارة الأمريكية باتت هذه الدول تطرح أسئلة حول المكان والمكانة التي ستبدو عليها في خرائط مصالح المستقبل.

اليوم يطرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب معادلات جديدة في السياسة والاقتصاد والذكاء الاصطناعي تحتاج إلى «يالطا جديدة» يمكن من خلالها «هندسة المصالح» للقوى العظمى والكبرى والمتوسطة والصغيرة حتى تكون هناك «خطوط فاصلة» لكي تشكل الأساس الجديد للتعاون واحترام النفوذ والمصالح بين الجميع حتى لا ينزلق التنافس إلى صراعات، والصراعات إلى حروب، فرغم الطابع الذاتي للمقاربات الجديدة لسيد البيت الأبيض، إلا أنها تطرح معاني ومفاهيم قد يقبلها ويتكيف معها البعض، وقد يرفضها البعض الآخر، لكن كل المؤشرات تقول إن هذه المبادرات يمكن أن تكون بداية «لحوار استراتيجي» لا يأخذ فقط مصالح القوى والتكتلات الكبيرة مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند، بل يمكن أن يكون للدول والشعوب الأخرى مكان على طاولة المستقبل مثل إفريقيا وأمريكا اللاتينية، فإلى أي مدى يستطيع الثلاثة الكبار «الولايات المتحدة والصين وروسيا» التوافق على خطوط المصالح بينها؟ وما القضايا التي يتوجب أن تكون على طاولة «يالطا الجديدة» بين واشنطن وبكين وموسكو؟ وهل المتغيرات الجديدة في المصالح والتكنولوجيا يمكن أن تشكل «حافزاً قوياً» نحو بناء عالم جديد يحفظ السلام والاستقرار الدولي لعقود مقبلة، كما نجحت في ذلك «يالطا الأولى»؟

ليس بدعة

تقسيم النفوذ بين الدول الكبرى واحترام هذه المصالح لوقت طويل على الأقل لم يكن بدعة، وظهر مصطلح «تقسيم النفوذ» بعد مقترح ألماني في مؤتمر برلين عامي 1884-1885، ودعا هذا المؤتمر إلى تقسيم النفوذ في إفريقيا بين الدول الأوروبية الكبرى حتى لا تدخل هذه الإمبراطوريات في نزاعات وخلافات تأخذ من طاقتها السياسية والعسكرية، نفس الأمر جرى بين بريطانيا وفرنسا فيما عرف «بالاتفاق الودي» الذي وقعته باريس ولندن في 4 إبريل 1904 وأنهى 1000 عام من الحرب بين البلدين، ورسم ملامح نفوذهما حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وسبق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن دعا لحوار استراتيجي بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وكان ذلك في 3 يناير 2020، ووافق على المقترح آنذاك الرئيس دونالد ترامب الذي كان في ولايته الأولى، لكن جائحة كورونا، وعدم نجاح ترامب في انتخابات نوفمبر 2020، أجهضت الفكرة.

وهناك من يعتقد في واشنطن وموسكو أن هناك استحقاقات ينبغي الوفاء بها من جانب كل القوى التي سوف تجلس على طاولة «يالطا الجديدة»، منها على الأقل التوصل إلى اتفاق حول أوكرانيا يكون مقبولاً من روسيا وأوكرانيا والاتحاد الأوروبي، وأن يصادف النجاح خطوات الرئيس ترامب في الداخل الأمريكي حتى لا يكون أي اتفاق محل تشكيك أو يجري إجهاضه من جانب الديمقراطيين، ويجب كذلك بلورة خيارات الدول الأخرى مثل الصين والهند والاتحاد الأوروبي قبل الجلوس إلى «يالطا الجديدة»، وهنا يتحدث الجميع عن ضرورة وجود «آليات جديدة وضمانات حقيقية» لتطبيق الالتزامات بين أطراف «يالطا الجديدة»، فعلى سبيل المثال تسبب عدم احترام دول حلف شمال الأطلسي «الناتو» لتعهداتها تجاه موسكو بداية من عام 1997، والتوسع شرقاً في 5 موجات تجاه الأراضي الروسية في الحرب الروسية الأوكرانية، وفق ما قاله الرئيس ترامب، وكان يمكن أن يقود هذا التوسع ل«الناتو» على حساب روسيا إلى حرب عالمية ثالثة، ويعود السبب في ذلك إلى أن اتفاق عام 1997 بين روسيا وحلف «الناتو» لم يحدد مجالاً للنفوذ الروسي والغربي، لأنه كان يفترض أن تكون هناك «مساحات عمل مشتركة» بين الجانبين، لكن ثبت أن هذا خطأ كبير وقع فيه الطرفان بعد أن عاد كلاهما «للقوة الخشنة»، ومحاولة تقييد مصالح الطرف الآخر، فقد وجدت روسيا أن تدخل الناتو في حروب البلقان بمنزلة إضعاف لوجودها في منطقة ضمن حدود نفوذها، كما أن احتلال أمريكا لأفغانستان المجاورة القريبة من الفضاء الروسي أقنع الكرملين بأن الغرب بقيادة الولايات المتحدة لا يراعي مصالحها، ولهذا بررت موسكو تدخلها العسكري في الحرب الجورجية الروسية عام 2008، وسيطرتها على شبه جزيرة القرم عام 2014، ودخولها الحرب الشاملة ضد أوكرانيا في 24 فبراير 2024، بأنه كان مجرد رد فعل على توسعات «الناتو» المتكررة.

 

وما يعزز الحاجة إلى يالطا الجديدة، هو تشابك المصالح وشدة المنافسة والاتهامات المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة حول الهيمنة التكنولوجية والاقتصادية والذكاء الاصطناعي، حيث تتهم بكين الولايات المتحدة بتشجيع تايوان على الانفصال وعسكرة الخلافات، بينما تتهم واشنطن موسكو بالقيام بحروب هجينة ضد المصالح الغربية، وتنزعج الولايات المتحدة من النشاط الروسي الصيني في حديقتها الخلفية في أمريكا اللاتينية، وهو ما يدفع الرئيس ترامب الآن للبحث عن طريقة للسيطرة على قناة بنما خوفاً من النفوذ الصيني، ولعل الرئيس الأمريكي ترامب بات واضحاً في المناطق ومساحات النفوذ التي يريدها، ولا يريد للآخرين الاقتراب منها، وهي كندا وجرينلاند والمكسيك وأمريكا الجنوبية.

5 ملفات على الطاولة

لكي تنجح يالطا الجديدة في حفظ السلام والاستقرار العالمي لفترة طويلة ينبغي أن يتم طرح 5 قضايا رئيسية والتوافق عليها، وهي:

أولاً: السلاح النووي

شهدت السنوات الثلاث الماضية من الحرب الروسية الأوكرانية سباق تسلح نووي غير مسبوق عبر تحديث الولايات المتحدة للمئات من الرؤوس النووية، وفي المقابل هددت روسيا باستخدام الأسلحة النووية أكثر من مرة، ولهذا يجب أن يكون الملف الأول على قمة يالطا الجديدة هو العودة لاتفاقية نيوستار الجديدة التي توصل إليها الرئيسان الروسي السابق ديمتري ميدفيديف والأمريكي باراك أوباما عام 2011، والتي نصّت على تخفيض الرؤوس النووية لدى الطرفين بنسبة 30%، وتخفيض أدوات الإطلاق النووية بنسبة 50%، وكان لهذه الاتفاقية دور محوري في تحسين العلاقة بين روسيا والغرب، لكن انسحب منها الطرفان عام 2023 على وقع الحرب الروسية الأوكرانية، ويمكن طرح قضية الأسلحة النووية على مستوى العالم بمعنى ضرورة ضم الأطراف النووية الأخرى في العالم، خاصة الصين وفرنسا وبريطانيا، ومن المهم بالنسبة لسلامة البشرية العودة مرة أخرى إلى اتفاقية منع إنتاج ونشر الصواريخ الباليستية قصيرة ومتوسطة المدى التي تستطيع حمل رؤوس نووية، وهي الاتفاقية التي وقعتها واشنطن وموسكو عام 1987، وانسحبت منها الولايات المتحدة وروسيا في أغسطس 2019، وهو ما يكرّس خطورة كبيرة عبر نشر هذه الصواريخ، سواء في أوروبا أو في شرق وجنوب آسيا، ناهيك عن ضرورة العودة الحتمية لمعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية التي انسحبت منها روسيا والولايات في نوفمبر 2023.

ثانياً: تقييد السلاح التقليدي

تحقيق السلام المستدام يحتاج، للعودة من جديد، إلى تقييد إنتاج ونشر الأسلحة التقليدية، ومنها معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا، والتي تم توقيعها في عام 1990 بين حلف وارسو وحلف الناتو، لكن روسيا انسحبت منها بشكل كامل في 7 نوفمبر 2023.
ثالثاً: إغلاق سياسة الباب المفتوح لـ«الناتو»
باعتراف الرئيس ترامب نفسه، فإن سياسة الباب المفتوح التي ينتهجها الناتو وإصراره على دخول أوكرانيا ل«الناتو» كانا من أبرز أسباب الحرب الروسية الأوكرانية بداية من عام 2014، والحرب الروسية الجورجية عام 2008، ومن هذا المنطلق فإن إعلان وقف سياسة الباب المفتوح في الناتو، والاكتفاء ب32 دولة كأعضاء يمكن أن يشكّل أساساً للسلام والاستقرار، ليس فقط في شرق أوروبا، لكن في مناطق أخرى، مثل البلقان وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى.

رابعاً: إصلاح الأمم المتحدة

رغم الأهمية القصوى للأمم المتحدة بكل أجهزتها، وخاصة مجلس الأمن والجمعية العامة، إلا أن هناك تراجعاً كبيراً في الثقة بالمؤسسات الدولية، ويعود هذا حصرياً إلى أمرين، الأول: هو فشل مجلس الأمن في منع الحرب الروسية الأوكرانية، وطوال 15 شهراً عَجَزَ عن وقف الحرب بين إسرائيل والفلسطينيين، ولهذا يجب أن يكون إصلاح الأمم المتحدة ومجلس الأمن في مقدمة الملفات التي ينبغي لقمة يالطا الجديدة الاهتمام بها عبر تمثيل متوازن للكتل الجغرافية والسكانية الأخرى في العالم، وخاصة إفريقيا وأمريكا اللاتينية، اللتين ليس لهما أي عضوية دائمة في مجلس الأمن، لأن تراجع الثقة بعصبة الأمم، وغزو هتلر لبولندا عام 1939 هو الذي أدى إلى نشوب الحرب العالمية الثانية، وإزهاق أرواح نحو 70 مليوناً من البشر، ويرتبط بهذا الأمر ضرورة الاتفاق على آليات تنفيذية لقرارات الأمم المتحدة، لأن عدم الثقة بقرارات المنظمة الدولية يعود حصرياً لعدم تنفيذ هذه القرارات أو التنفيذ الانتقائي لبعضها فقط، وأيضاً يعود تراجع الثقة بمؤسسات الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية الأخرى إلى عدم الالتزام بالقانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، فالتعاون بين القوى الدولية في ملفات مشتركة يمكن أن يكون بداية لتعزيز الثقة بين هذه الأطراف، ومنها على سبيل المثال التعاون في القطب الشمالي والفضاء ومواجهة الأوبئة والجوائح العالمية.

خامساً: الحوار والخطوط الساخنة

غياب الحوار بين القوى العظمى، وتعطل الخطوط الساخنة هو الذي أدى إلى حروب مدمرة، ولهذا من الأهمية بمكان استئناف الحوار الاستراتيجي بين روسيا والولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي مع أهمية ضم أطراف دولية أخرى باتت فاعلة في صياغة العلاقات الدولية والمصالح العابرة للحدود، وفي المقدمة البرازيل والهند واليابان وأستراليا، لأن من شأن ذلك أن يخلق مساحة من العمل المشترك، بما يضمن سهولة سلاسل الإمداد، والاتفاق على حدود عمل الذكاء الاصطناعي، والالتزام بحدود التنافس القائم على القواعد الدولية المتفق عليها.
المؤكد أن أفضل شيء يمكن أن تتفق عليه القوى الكبرى في مؤتمر يالطا الجديدة هو وضع آلية لمنع الحروب، وأن تكون هناك قناعة كاملة بأن مصالح الجميع تبدأ وتنتهي عند تجنب الحروب والبحث عن طريق للتعاون والتعايش والمصالح المشتركة.

الخيلج

صفحة الفيس بوك:https://www.facebook.com/narampress?locale=ar_AR

Visited 6 times, 1 visit(s) today