اخترنا لكمعرب وغرب

محاضر من «أستانا 18»: الحلّ السوري بعيد وتركيا لن تنسحب

بيروت…
تُظهر المواقف الإيرانية والروسية من التهديد التركي المتجدّد بعملية عسكرية برّية في سوريا، نوعاً من الليونة التي يمكن تفسيرها بجملة ظروف مستجدّة، جعلت الأطراف الثلاثة الضامنة لـ«مسار أستانا» متقاطِعةً عند العداء للقوّات الكردية في الشمال السوري. ليونةٌ لم تكن إلى ما قبل أشهر حاضِرة كما اليوم، وفق ما تُظهره وثائق سرّية عائدة إلى الجولة ما قبل الأخيرة من اجتماعات «أستانا»، اطّلعت عليها «الأخبار»، يسجّل فيها الروس والإيرانيون حزماً حيال أيّ عملية تركية من النوع المذكور، لم تَعُد مستبعدة، في ظلّ شبه تقبّل موسكو وطهران للمحاججات التركية، ودخول الاتصالات مرحلة الحديث عن حدود التوغّل والأثمان السياسية المطلوبة لقاءه

تحت سطح الهدوء الذي عاشه الميدان السوري طوال الشهور السابقة، كانت تعتمل عوامل ضاغطة عديدة على أكثر من طرف فاعل في الملفّ، يبدو أن بعضها وصل اليوم إلى لحظة الانفجار. هذا ما ينطبق مثلاً على الهجمات الجوّية التي تنفّذها تركيا ضدّ «قوات سوريا الديمقراطية» في شمال سوريا تحت عنوان عملية «المخلب – السيف»، والتلويح باقتراب لحظة وقوع العملية البرّية، والتي سيسيطر خلالها الجيش التركي على مزيد من الأراضي السورية الحدودية. ولطالما كانت هذه الخطوة محطّ تداول طوال الفترة الماضية، خصوصاً في جولة محادثات أستانا التي عُقدت في حزيران الماضي، وتالِيَتها التي التأمت قبل يومَين على وقْع القصف التركي على مواقع «قسد»، على مسمع ومرأى من القوات الروسية والأميركية المنتشرة في المنطقة. وبينما لا تزال روسيا على موقفها المعلَن الرافض للتحرّك البرّي التركي ـــ مع بروز تبدّلات ملحوظة في الميدان لناحية السماح للطائرات التركية باختراق «المجال الجوّي الروسي» في سوريا ـــ تُبدي إيران هذه الأيام تفهّماً أكبر لهذا التحرّك.

في وثائق سرّية حصلت عليها «الأخبار»، تتكشّف المواقف غير المعلَنة وبعض خلفيّاتها، للدول الفاعلة في الملفّ السوري، وذلك على ألسنة مسؤولي هذا الملفّ في كلّ منها، في محادثات ثنائية خاصة، من أيّ عملية عسكرية تركية جديدة في سوريا. ففي حزيران الماضي، انعقدت في العاصمة الكازاخية نور سلطان الجولة الـ18 من «مسار أستانا» التفاوضي، عندما كان الميدان يعيش هدوءاً نسبياً، باستثناء بعض التوتّر بين تركيا والفصائل المسلّحة الموالية لها من جهة، و«قسد» من جهة أخرى، وفي وقت كانت فيه أنقرة تلوّح بنيّتها شنّ عملية عسكرية في ريف حلب الشمالي، وتحديداً على محور عين العرب – منبج – تل رفعت. ممثّل تركيا في «أستانا» حينها، ومسؤول الشؤون السورية في الخارجية التركية، سلجوق أونال، أشار إلى أن «بعض الدول تُعارض العملية، لكنّ هذه الدول في الوقت عينه تتفهّم المخاوف الأمنية لتركيا»، مُدافِعاً بأنه يتوجّب «على تركيا أن تقوم بهذه العملية بسبب مخاطر الإرهاب والانفصاليين، وهذا ما لا تحتمله». وانتقد أونال موقف موسكو، معتبراً أن «ما يقوله الروس بأن العملية ستزعزع استقرار سوريا غير صحيح، لأن لا استقرار أصلاً في سوريا، كما ليس هنالك من ستاتيكو حقيقي ستزعزعه هذه العملية. لا بل إن العملية ستمنع زعزعة الاستقرار بسبب الأجندة الإرهابية والانفصالية لـ»PKK» (حزب العمال الكردستاني)». واستعرض أونال، في حديث خاصّ مع دبلوماسيين، مسار الهجمات العسكرية التي نفّذتها تركيا سابقاً في سوريا، حيث إن «شركاءنا (روسيا وإيران) اعترضوا سابقاً على عملية نبع السلام، ثمّ ما لبثوا أن رفعوا العوائق من أمام تركيا»، في إشارة إلى قبولهم الوقائع التي فرضتْها تلك الهجمات. وافترض أن «الروس ربّما يَعتبرون أن طرد القوات الكردية (من المناطق الحدودية) سيدفعها باتجاه المناطق السورية الداخلية، وهذا قد يجدّد النزاع»، مبيّناً أنه «في هذه الحالة، هُم (الأكراد) سيهاجمون الجيش السوري وليس تركيا». وختم المسؤول التركي حديثه بالتأكيد أن «المسار السياسي بطيء (…) أستانا يبقى المسار الوحيد الذي لا يزال على قيد الحياة»، مشيراً إلى أنه «سبق أن أنشئت المجموعة المصغّرة حول سوريا وانتهت، وكذلك انتهى مسار جنيف».

وفي وثيقة أخرى، تحدّث سفير تركيا لدى روسيا، محمد سامسار، في اجتماع خاص داخل مكتبه عُقد في تموز الفائت، حول العملية العسكرية المرتقبة، قائلاً إنه «بالنسبة إلى تركيا، فإنه لا أطماع لديها في سوريا، وهدف أنقرة كان ولا يزال إبعاد المنظمات الإرهابية الكردية عن حدودها لمسافة 30 كم على الأقل، وهو الأمر الذي كان الأميركيون قد وافقوا عليه، وأيضاً الروس، الذين كانوا قد تعهّدوا بالمساعدة على تحقيقه منذ عام 2019، دون أن ينجحوا حتى الآن، ما دفع القيادة التركية أخيراً للإعلان عن عملية عسكرية قد تكون قريبة لتحقيق الهدف المذكور، بالرغم من معارضة موسكو وواشنطن، التي تقوم بحماية بعض الفصائل الإرهابية شرق الفرات». من جهة أخرى، استبعد سامسار «إمكانية التوصّل إلى حلول في المدى المنظور، خاصة في ظلّ توتر العلاقات بين موسكو من جهة، وواشنطن والغرب من جهة أخرى»، لافتاً إلى أن «الوضع السوري في غاية التعقيد، مع وجود دول كثيرة تتصارع على الأرض السورية لحفظ مصالحها المتعارضة في كثير من الأحيان»، مُهاجِماً «الدور الإيراني الطامح إلى بقاء طويل الأمد في سوريا، ومحاولة إحداث تغيير ديمغرافي في بعض المناطق السورية، ومنها دمشق العاصمة، وذلك خدمة لأهداف بعيدة المدى تؤذي الشعب السوري بلا شكّ، وتهدّد بشدّة وحدة البلاد واستقرارها على المدى البعيد».

بدوره، رأى المبعوث الروسي الخاص إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، أنه «سيكون من الخطير إن أقامت تركيا منطقة عازلة، وهذه ستخلق تهديدات جديدة»، لافتاً إلى «(أننا) نصحنا العراقيين وجيران سوريا، أن يتواصلوا مع إيران والدول العربية لمطالبة تركيا بشكل جماعي بعدم تنفيذ عمليّتها». وأشار لافرنتييف إلى أن «تركيا دائماً تؤكّد أنها لا تريد تقسيم سوريا، وأنها مع المحافظة على وحدة وسيادة سوريا، لكنهم يضيفون أنهم سيتركون سوريا عندما تسمح لهم الظروف بذلك، وهذا لا يبدو لنا مشجّعاً. إذا دخلَت لن تنسحب»، مشدّداً على أنه «من الضروري أن نعمل معاً، وأن لا نترك ذلك يحدث (…) (تركيا تريد) احتلال أراضي سوريا، وتشكيل حكومة موالية لها». ولدى سؤاله عن الانتشار الميداني الروسي في سوريا، مع احتدام الحرب في أوكرانيا، أكد «(أننا) لن ننسحب من سوريا. أجرينا إعادة انتشار لقوّاتنا، بسبب بعض الصعوبات اللوجستية المتأتّية من تركيا». وختم حديثه بالقول إن «علينا أن نعيش مع نزاع طويل الأمد» في سوريا. من جهته، رأى مساعد وزير الخارجية الإيراني، علي أصغر حاجي، أن «كلّ ما يحدث متأثّر بالحرب الأوكرانية، التي تُضاعف من خطورة الحالة في الشرق الأوسط»، معتبراً أن «ما تقوم به روسيا في أوكرانيا، تحاول تركيا مقابلته في سوريا»، في إشارة إلى المخاوف الأمنية الروسية في أوكرانيا، والتي دفعتْ موسكو إلى تنفيذ عمليتها العسكرية هناك. وأضاف حاجي: «نقول لأصدقائنا الأتراك إن مخاوفكم الأمنية لا يمكن حلّها بالوسائل العسكرية، وإلّا لكانت حُلّت مُسبقاً. نقول لهم، ساعدوا الجيش السوري للانتشار على الحدود تطبيقاً للاتفاقيات بينكما». أما ممثّل الأمم المتحدة في محادثات أستانا، مدير مكتب المبعوث الدولي الخاص إلى سوريا غير بيدرسون، روبرت دان، فرأى أن «كلّ الأطراف حقّقت أكثر ما تستطيعه»، متابعاً أن «اليوم هنالك تركيا، ينبغي انتظار ردّة فعل الأطراف الباقين على عمليّتها العسكرية، وما سينشأ عنها».

وعلى رغم الحزم الذي تتّسم به المواقف الإيرانية والروسية حيال العملية العسكرية التركية في سوريا، وفق ما تُظهره الوثائق، إلّا أن هذه المواقف تبدو اليوم أقلّ حدّة، وهو ما يمكن أن يُعزى إلى أسباب مختلفة خاصّة بكلّ من الدولتَين. بالنسبة إلى روسيا، فإن التعاون الروسي – التركي بلغ أوْجه خلال الأشهر الأخيرة مع احتدام الحرب في أوكرانيا، في ظلّ موقف أنقرة الذي حافظ على حياده نوعاً ما. وإذ تُدرك روسيا أن تركيا اليوم هي أحد معابرها الأساسية إلى العالم في ظلّ الحصار الغربي المستمرّ على الأولى، فإن الدولتَين تُظهران تعاوناً واسعاً في منطقة القوقاز، أسفر حتى اليوم عن تجنُّب أزمات كبرى، وربّما معارك متجدّدة، وخصوصاً بين أرمينيا وأذربيجان. والأهمّ من كلّ ما سبق، سياقان مغايران للتعاون: الأوّل متعلّق باتفاقية تصدير الحبوب من الموانئ الأوكرانية عبر البحر الأسود إلى تركيا ثمّ البحر الأبيض المتوسط؛ والثاني متّصل بتصدير الغاز الروسي، حيث اتفق الرئيسان الروسي والتركي، الشهر الماضي، على البدء بإنشاء مركز لتوزيع الغاز الروسي من تركيا إلى دول جنوب وشرق أوروبا، عبر أنابيب ناقلة تمرّ من البحر الأسود وعبر الأراضي التركية. وانطلاقاً ممّا سبق، تبدو مفهومةً المرونة التي طرأت على موقف موسكو، والتي تُعزّزها أيضاً المُحاججة التركية بأن الظروف التي دفعت روسيا إلى تنفيذ عملية عسكرية في أوكرانيا، تنطبق إلى حدّ بعيد على تلك القائمة عند الحدود السورية – التركية، وبالتالي فإن ما شرّعته روسيا لنفسها، لا بدّ أن تشرّعه لشريكتها تركيا.
أمّا بالنسبة إلى إيران، التي تعاني اليوم اضطرابات داخلية، فهي تتّهم الأحزاب الكردية – الإيرانية المعارِضة المتمركزة في إقليم كردستان شمالي العراق، بالمسؤولية عن إرسال وتدريب وتجهيز مجموعات مسلّحة لتنفيذ أعمال «إرهابية» على أراضيها. وهي استجابت سريعاً لهذا التهديد باستهداف مواقع تلك الأحزاب، ملوّحةً أيضاً بإمكانية شنّ عملية عسكرية برّية لإبعادها عن الحدود. ومن هنا، يُحاجج «الديبلوماسيون الأتراك، أمام نظرائهم الإيرانيين، وكذلك أمام نظرائهم في دول المنطقة، بسياق تشكُّل الموقف الإيراني المستجدّ تجاه الأحزاب الكردية المسلّحة، ويقارنونه بالموقف التركي السابق والحالي، للقول إن عمليات بلادهم العسكرية السابقة والمرتقَبة في سوريا شرعيّة ومبرّرة، ولا يجب الاعتراض عليها، خصوصاً من قِبَل الإيرانيين»، بحسب ما تَكشفه مصادر ديبلوماسية إقليمية. وفي مقابل هذه المحاججة، يُبدي المسؤولون الإيرانيون تفهّماً للمخاوف الأمنية التركية، إلّا أنهم «يحثّون نظراءهم الأتراك على التعاون مع الحكومة السورية، لضمان انتشار الجيش السوري على الحدود بين البلدين، ومنْع وقوع عمليات أمنية أو عسكرية داخل الأراضي التركية، كما ذلك الذي تسعى إليه طهران مع بغداد»، والذي تجلّت أولى ثماره في إعلان الحكومة العراقية نشْر قوّاتها على الحدود بين إيران وإقليم كردستان.

هكذا، يَظهر أن مصلحة الدول الثلاث الضامنة لـ«مسار أستانا» تلتقي عند العداء للقوات الكردية في الشمال السوري. فهذه الأخيرة وضعت كامل بيضها في السلّة الأميركية، ما يزعج الروس إلى حدّ بعيد، واشتبكت مع تركيا التي تحافظ على موقفها العدائي منها، وفشلت في إنجاح أيّ محاولة حوارية مع دمشق، وذهبت إلى حدّ الاشتباك مع القوات السورية غير مرّة، كما تناقض بتحالفها الوثيق مع الأميركيين الموقف الإيراني المُساند لدمشق، فضلاً عن كوْن نظرائها في أربيل باتوا يشكّلون تهديداً متزايداً للأمن القومي الإيراني. لكن كلّ ما سبق لا يعني أن هذه الأطراف اتّفقت تماماً على السماح بتنفيذ عملية عسكرية تركية جديدة في سوريا، بل يبدو أن ما جرى حتى الآن هو إبداء تفهّم متزايد للمخاوف التركية، في وقت تتسارع فيه الاتصالات البينيّة لرسم حدود الطموح التركي، والتوافق على التفاصيل الميدانية والأثمان السياسية.

الأخبار اللبنانية

Visited 21 times, 1 visit(s) today