الهروب من الذئب .. عار لاتستحقه السويداء
السويداء..
اذا كان الناس ضد الفساد ويرفضونه فان أحد أنواع الفساد الخطرة هو المجاملة والتملق وتدوير الزوايا وتلوين الكلمات والباسها الأقنعة المسرحية والتنكرية فقط لاخفاء الحقيقة .. لأن الحقيقة تزعج اللصوص والخونة فتتحول الرشوة الى (هدية لتبادل المحبة) والى تجديد علاقات اجتماعية .. ويتحول خرق القانون الى استثناءات قانونية .. ويصبح اللص مجتهدا وأخطأ في القرار .. ويخترع الناس كل الأغطية اللفظية والمبررات التي تبرر فسادهم .. والا فما هو الفساد الذي تورطنا فيه جميعا من خلال ثقافة النفاق والمدتهنة للكراسي الحكومية مهما كان من يجلس عليها والطراوة في الكلام وتبديل مواقع الكلمات وارغامها على ان تكذب باسم الحرص على مشاعر الفاسدين واسترضائهم واسترضاء ومن والاهم؟ الفساد هو اخفاء الحقيقة لغاية دنيئة والتوقف عن استعمال الكلمة المناسبة في الخطأ المناسب ..
ولذلك فانني لن أجامل ولن أفكر في مشاعر من سيقرأ الحقيقة .. ولايهمني على الاطلاق ان يقدم لي أحدهم محاضرة في المعاناة والجوع والفقر والفساد الحكومي لأن المسؤولين الحكوميين هم من منتجات الشعب وليسوا ابناء ذوات وبيكوات او ينتمون الى عرق انغلوساكسوني .. فالحقيقة التي يجب ان أقولها هي ان من رأيتهم مهتاجين في ساحة المحافظة في السويداء يهاجمون مبنى المحافظة ويحرقون ويحطمون هم نوع من أنواع الخونة الذين ابتلينا بهم مهما كانت شعاراتهم .. وماأكثر ألوان الخيانات التي صدرت طبعاتها بكل الالوان والأشكال والمذاقات الكريهة .. فما حدث هناك هو ممارسة للخيانة بشكل جلي بحجة المطالب المعيشية ..
لايستطيع أحد ان يرفع صوته وينفجر غضبا ويزايد عليّ ويقول لي انني أعيش في برج عاجي وان أمعاء الفقراء هي التي تصرخ فيما أنا أكتب من عالم الاثرياء والبرجوازيين .. لأننا جميعا وأهلنا وأصدقاؤنا .. الكل يعيش في هذا البلد ونعرف كم يعاني الناس ونعرف كم الوجع الذي يتقاسمه الجميع وكل من حولي ينقلون لي وجعهم عن رسائل البنزين والمحروقات والحرمان من اشياء كثيرة .. ونعلم انه كما في كل حرب وكل صراع سيولد أثرياء الحرب وفقراء الحرب ويفقد المجتمع توازنه لفترة لصالح موجة تدفع بها الحرب كما يدفع الفيضان بكل شيء جيد ورديء .. ولم يغب عن هذه النتيجة حتى المسلمون في اوائل فجر الاسلام الذي ولدت معه سلطة اثرياء جدد تنافسوا على (الصيدة) وهي السلطة الجديدة والملك .. حتى ان أبا سفيان قال للعباس عم النبي في فتح مكة وقلبه امتلأ بالحسد (ان ملك ابن أخيك صار عظيما) فاستدرك العباس وقال بل انها النبوة يا اباسفيان .. ولكن مايولد في الحروب العظمى رغم تناقضات نتائجها ايضا هو مصير الجميع .. فقراء وأغنياء .. ومصير الثقافات .. ومصائر الأمم .. ومسار التاريخ .. ومصير أجيال ومصير كل مستقبل .. ومصير حرية الناس وطريقة عيشهم لمئة سنة على الاقل ..
ولكن مارأيته في مشاهد السويداء ليس أمعاء الفقراء .. وليس الفقراء .. انما أشقياء وتابعين للأشقياء .. بل هو نفس المشهد الذي رأيته في درعا عام 2011 .. فماكان عام 2011 يومها هو البحث عن ذريعة للتمرد وخلق الرغبة في التمرد واستجاب لها كثيرون لأنه تم اقناع الناس انه آن أوان التغيير وأوان الثورة وأوان الديمقراطية وأوان الحرية .. يومها كان الخبز وكلفة الحياة في سورية استثنائية في سهولتها .. والتسامح السياسي في درجة مقبولة وصلت حد ان ملاحقة الاخوان المسلمين توقفت وصار هناك تلاق مع أفكار الانفتاح السياسي وتقليل الاعتماد على جهاز الامن في حياة الناس وكان الناس يعيشون في بحبوحة صارت محط انتباه كل من يزور البلاد .. ولم يكن هناك اي مبرر اقتصادي لأي ثورة بل كان هناك مبرر فقط لنقاشات الصالونات والمجالس عن الحريات والقوانين التي تأخذ في أعرق الديمقراطيات سنوات كي يتم اعتمادها بعد ملايين ساعات النقاش .. فجأة خرجت شلة من الزعران المعارضين الذين يريدون تطبيق الديمقراطية في ساعات .. وصارت ترفع شعار ثورة الكرامة وليست ثورة الخبز .. لأن الناس كانت في ذروة الانفراج الاجتماعي والاقتصادي فصار شعار الكرامة والحرية هو مايجب ان يخرج الناس الى الشوارع .. والمقصود هو استدراج الناس الى فخ الصراع مع الدولة وتوريط الدولة بدم المتظاهرين وتحويله الى صراع دموي .. وبالفعل خرج كثيرون وهم يظنون انهم يريدون اكمال القفزة الاقتصادية بقفزة سياسية سريعة وبناء حياة سياسية يحلمون فيها ان يكون لدينا في سورية مثل بريطانيا مجلس لوردات ومجلس عموم .. ولم لايكون لدينا كونغرس ومجلس شيوخ مثل بلاد العم سام وصحف مثل واشنطن بوست وو .. كلها أفكار مستوردة مراهقة لاتناسب بناء مجتمع شرقي لاتزال القبيلة والعشيرة والطائفة هي التي تصنع كونغرساتها وتفرضها علينا .. ولايزال الفساد نفسه مزارع طائفية وعشائرية وجهوية وتحميه الطائفة والعشيرة كما هي ديمقراطية لبنان .. حيث الطوائف تحمي الفساد الطائفي لأنه فسادها هي وتنتقم وتشنع على الفاسدين من غير طائفتها .. وهكذا ..
ولم يكن من السهل ان تبني نظاما سياسيا واجتماعيا علمانيا جديدا بهذه البساطة والطفولة العقلية دون البحث والدراسة العميقة جدا لدستور ونهج الحكم والعلاقات في عقد اجتماعي متماسك وأنت تنظر في المشكلة الدينية والتراثية ومشكلة الثقافة ومشكلة الجهل والفقر في الارياف والتدخلات الاقليميمة والخارجية .. وانت لديك صراع وجود مع المشروع الغربي في فلسطين المسمى اسرائيل .. لأننا يجب ان نتعلم من التاريخ وألا نقفز بحماس في اي مشروع بشكل انفعالي وعاطفي .. كما حدث مع أعظم مشروع للوحدة بين سورية ومصر وهو أول مشروع نهضوي وحدوي طوعي منذ عام 1516 عندما تم دمج البلدين خلال أسابيع دون النظر في طريقة الدمج الاقتصادي وطريقة ادارة البلاد بشكل صحيح من قبل مؤسسات سليمة ومتينة البناء وجهاز رقابة شفاف ينقل مشاكل الوحدة الجديدة ..
أي ان العملاء في درعا ركبوا موجة الحرية والديمقراطية وجروا معهم الكثيرين الذين تفاعلوا مع الشعار الذي بدا براقا وبرئيا ومستجيبا لعشرات السنوات من الشكوى من تشنج العلاقة بين مؤسسة الحكم العربية وبين المحكوم انعكس في كل كتابات النخب التي كانت تنظر برومانسية الى الديمقراطية الاوروبية وتريد ارتداءها مهما كان مقاسها ضيقا او فضفاضا علينا ..
واليوم المطالب الشعبية تستخدم وقودا لاثارة البسطاء .. واستدراجهم الى الفوضى بذريعة الوضع الاقتصادي المتفاقم .. والمطلوب واضح جدا هو ان يندلع صراع دموي مع الدولة وتتورط الدولة في قتل بعض الشبان ليمسك المحركون بالدم ويعلقونه كقميص عثمان ويطلقوا هاشتاغات الثأر .. وتصبح مطالب الشعب ليس في الخبز بل في محاكمة أجهزة الدولة على قتلها الجياع والفقراء لأنهم فقط طالبوا بالخبز كما كان يقال في بداية احداث 2011 (بأن الشباب خرجوا فقط للمطالبة بشيء من الحرية فقتلوا في الطرقات بوحشية) .. واذا مااستجابت الدولة لأي مطلب تحت الابتزاز والتهديد بتفجير السكون الشعبي فانه سينقل الجمهور عبر هؤلاء الفوضويين الى مطالب جديدة استفزازية وابتزازية كما حدث في درعا .. فكلما وافقت الدولة على المطالب دفع الناس دفعا للمطالبة باشياء تعجيزية انتهت الى حد اخلاء المدن من الوجود الامني ووجود الجيش مما ترك المجال لانتشار قوى الفوضى والسلاح .. وكل تريث في الاستجابة من الدولة كان يعتبر انه استهانة بأهل درعا ومطالب الشعب .. وفي السويداء فان اي تعثر في تلبية المطالب التي سينشرها هؤلاء الأشقياء سينقل ويفسر على انه استهانة بوجع أهل السويداء .. وسيتم توجيهه ليكون استخفافا طائفيا بأهل السويداء ..
وهذا هو مايفسر اظهار علم الموحدين ليحل محل العلم السوري في المقر الرسمي للمحافظة .. وهي حركة مرسومة في الخارج حتما للايحاء بانهاء العلاقة مع الوطن وبدء العلاقة مع الطائفة فقط وشحن مشاعر الناس طائفيا .. فالموحدون سيرون ان من يثور هو منهم وهم منه وهو يعبر عنهم واذا أصابهم مكروه فانه يصيب الموحدين جميعا .. فيما سيراه الاخرون على انه استدعاء لكل طائفة لتبحث عن مصالحها بذات الطريقة .. فلماذا يحق للسويداء مالايحق لحماة؟ انها عملية تشبه عملية تمزيق العلم السوري في حمص ورفع العلم الاسرائيلي .. ورفع علم قسد بدل العلم السوري .. واختراع علم جديد للمعارضة السورية ليحل محل العلم الرسمي .. وانطلاق مزارع تفريخ الاعلام الاسلامية لداعش والنصرة والقاعدة وجيش الاسلام وأحرار الشام ووو .. كله للايحاء ان العلاقة مع العلم الوطني ومع سورية الجامعة للشعب كله انتهى .. وهي اعلان لنهاية العلاقة مع الوطن وبداية علاقة مع التدخل الخارجي والاستعداد للخيانة والمقايضة .. وأول توقيع على المقايضة هي قتل العلم الوطني واعلاء الأعلام الصغيرة والفرعية والقزمة ..
لايفسر انزال العلم السوري ورفع أي علم آخر مكانه على انه اعلان لثورة الخبز وثورة المطالب المعيشية فلا شيء يستدعي انزال علم الوطن .. لارغيف الخبز ولا صراخ الأمعاء ولا اي فقر .. ولم توجد ثورة في العالم ولا احتجاجات شعبية معيشية أهانت علم بلادها على الاطلاق لان لاعلاقة برمز البلاد بأزمته الاقتصادية .. ولأن اهانة العلم هي اعلان عن مقايضة الوطن بالعمالة .. ومن ينزل علمه من أجل معدته فانه كمن يتعرى من ثيابه في شوارع العالم ليبيع جسده .. فالعلم هو الستر والعباءة .. وهو العرض الأممي والوطني ..
كل القبضايات الذين كانوا يتمرجلون ونصفهم من الملثمين في السويداء يعلمون انهم لو ذهبوا الى مناطق النفط في دير الزور وأحرقوها بمن فيها بدل احراق مبنى المحافظة (وهم قادرون) او اعلنوا غضبهم من حبس كل مصادر الطاقة عن 15 مليون سوري بيد 900 جندي امريكي لحصلوا على مايريدون .. ولكن طبع الجبان هو أنه يذهب الى حيث يعرف انه لن يقتل ولن يضرب .. فيسرق أهله ويستقوي على مال الدار ومؤونته ويستعرض عضلاته على أثاث البيت لأنه لايجرؤ على ان يسترد حقه من عدوه لأن عدوه اكثر شجاعة منه في الدفاع عن مسروقاته ..
مارأيته في السويداء .. هو حفنة من الأغبياء .. وحفنة من الجبناء .. ولاأريد ان أقول حفنة من الخونة .. يتمرجلون على علم الوطن .. ويغمسون الرغيف بدم علم وطنهم الذي أردوه قتيلا .. انهم كمثل رعاة يعرفون ان الذئب يقتل أغنامهم .. وبدل الذهاب لاصطياد الذئب .. اختبؤوا في بيوتهم خلف الأبواب وصاروا يتنافخون شرفا كما فعل زعماء العرب وهم يستمعون الى فض غشاء بكارة فلسطين اخت عروبتهم .. الرعاة بدل ان يقتلوا الذئب قرروا قتل من في البيت .. بحجة انهم جياع .. ويحق لهم ان يأخذوا كل الغنم قبل ان يأكلها الذئب ويضيع نصيبهم ..
نارام سرجون