الإرهاب الامبراطوري غذائي وأمني وثقافي
الرأسمالية حرب مستمرة وإن متقطعة. حروب تتوالى أو تتزامن في جميع أنحاء الأرض. لو قُبلت روسيا في تسعينيات القرن الماضي في الحلف الأطلسي لخسرت الامبراطورية عدواً كان يريد أن يصير صديقاً. على روسيا أن تبقى عدواً من أجل أن تبقى الحاجة الى الحلف الأطلسي كحلف أطلسي بغض النظر عن صيرورة أوروبا اتحاداً اقتصادياً ثقافيا.
لعل أشد البلدان الأوروبية حماسةً ضد روسيا وتأييداً ودعماً لأوكرانيا هي بريطانيا، الجزيرة التي تحيط بها البحار، كما هي الامبراطورية الأميركية ذات الهيمنة على قارة أميركا الشمالية والجنوبية، تحيط بها المحيطات من الشرق والغرب. وعلى كل حال، فعل الأميركيون كل ما بوسعهم لإقناع فلاديمير بوتين بأن امبراطوريته مهددة. ونكثوا وعودهم بعدم توسّع الأطلسي شرقاً، فإذا بهم وحلفهم العسكري على حدود روسيا الغربية والجنوبية في أوكرانيا، بعد اعتلاء البطل الكوميدي فولوديمير زيلينسكي سدة السلطة.
لم يدخل في روع بوتين أنه وإن كانت أوكرانيا سلافية ومرتبطة تاريخياً منذ عدة قرون بالامبراطورية الروسية القيصرية، ثم صارت جزءاً من الاتحاد السوفياتي، إلا أنها دولة مستقلة منذ عقود. وهذا كافٍ لتشكيل قومية ضمن الدولة. والقومية تؤدي الى أمة. وهذه تقاوم مقاومة شرسة عندما تعتبر أن هناك اعتداءً عليها من دولة كبرى ولو كان حجمها أكبر بأضعاف. طبعاً، يشتد السرور بالمقاومة لدى الأوكرانيين عندما تنهال عليهم المساعدات العسكرية والمالية من أوروبا والولايات المتحدة. هذه الأخيرة لديها المال والسلاح، وبسلاحها تنشب الحرب في أوكرانيا وغيرها. فالسلاح يجر المال بالتي هي أحسن.
تخلت أوروبا عن سياسات بيئية درجت عليها منذ زمن، إذ تعود حالياً الى استخدام الوقود من الفحم الحجري. في نفس الوقت، تعود الفاشستية الى الظهور في أوروبا ومن ضمنها أوكرانيا، بما يلبي ضرورات الحرب، ويفرج عن القيود التي كانت مفروضة على ألمانيا لمنعها من التسلّح أو التوسّع في صناعة الأسلحة.
ربما كان بوتين قد اعتبر أن الحرب على أوكرانيا ستكون سهلة عندما بدأ حربه، كما كان الأمر في جورجيا وقازاخستان، وربما في سوريا. إذا كان الأمر محرجاً للامبراطورية الأميركية، فهو ليس كذلك بالنسبة لأوروبا، بما فيها أوكرانيا. الخسائر كبيرة والدمار كبير، ناهيك عن الخسائر البشرية، وهجرة حوالي 10 ملايين من سكان أوكرانيا.
يقول الخبراء العسكريون إن حرب أوكرانيا ستكون طويلة، وهي تهدد عدة مناطق في العالم بالمجاعات نتيجة انقطاع صادرات أوكرانيا من الحبوب والزيوت الغذائية. غريب أن يقال أن غذاء العالم يعتمد على إنتاج أوكرانيا الزراعي، في الوقت الذي تكفي زراعة الولايات المتحدة لإطعام العالم. وإذا أضيف إليها إنتاج كندا وأوستراليا ونيوزلندا، تكون مشكلة إطعام البشرية محلولة إذا لم يكن النظام العالمي السياسي الرأسمالي يمنع ذلك. والأغرب أن يُطلب من الهند تصدير القمح، وهي كانت حتى وقت قريب تعاني من مجاعات نقص الغذاء. على الخبراء أن يشرحوا لنا أسباب التهويل بالمجاعات: هل الأمر مصدره نقص الإنتاج حول العالم أو المشكلة هي في إيصال ما يتوفر من الإنتاج الى من يحتاجه؟ لكن الخبراء تقنيون، يخضعون لضرورات الاقتصاد السياسي. إذ تعبير الاقتصاد وحده لا يفسر كل شيء في السياسة الدولية، ويسمونها الآن جيو-بوليتيك، كي لا يقال اقتصاد سياسي. فاستخدام تعبير سياسي هو أمر مكروه عند الامبراطورية لأنه يوحي بالنوايا، أو ينبئ عنها، وهذه يراد التعمية عنها.
في منطقتنا إرهاب نووي مصدره ليس إيران بل إسرائيل مدعومة من الامبريالية الأميركية. ليس مرغوباً لدى كل من لديه عقل وحس إنساني أن يمتلك سلاحاً نووياً. لكن إيران وقّعت اتفاقاً في العام 2016، تخلت بموجبه عن جزء من السيادة كي تسمح لمحاكم التفتيش الامبراطورية، أعني هيئة الطاقة النووية العالمية، بالدخول إلى إيران وإجراء مراقبة على الدولة ومجتمعها. الاتفاق النووي مزقه دونالد ترامب. ثم جاء جو بايدن لإجراء تفاوض غير مباشر حول الأمر نفسه. ثم تقول الإدارة الأميركية إن إيران لا تلتزم بالاتفاق. والآن يأتي بايدن لزيارة السعودية بحجة الطلب، بالأحرى الضغط، لخفض أسعار النفط. فكأن المصلحة الأميركية تتنافى مع ارتفاعها والغلاء بشكل عام. لكن الأمر المهم وراء هذه الرحلة هو تجميع بضع دول عربية وإسلامية، الحاضر الغائب فيها إسرائيل، للإخافة من الخطر الإيراني، علماً أن السلاح النووي موجود في المكان الذي تعرفه فرنسا التي ساهمت في إطلاقه؛ والآن تدعم وجوده في إسرائيل الامبراطورية الأميركية. وكأن المطلوب هو إبقاء جذوة النار المذهبية والانقسام السني الشيعي في مجال إسلامي ضيق الأفق. الإرهاب النووي، أو بالأحرى خطر سلاح الدمار الشامل على منطقتنا يبقى حتى إشعار آخر من إسرائيل لا من إيران.
هذا لا يعني أنه ليس لدينا كعرب مشكلة مع إيران. مشكلتنا مع الدولة الإيرانية هي نفسها مشكلة الشعب الإيراني مع دولته. وهي أن دافعها العصبية القومية بغلاف ديني للتوسّع في ما لا يعنيها، وانفاق مبالغ طائلة على ما لا يعنيها في الوقت الذي يتضوّر شعبها فقراً. مشكلتنا مع إيران هي المشكلة نفسها مع أي نظام ديني سواء كان عربياً أو غيره، وسواء كان إسلامياً أم عربياً، أم غير ذلك.
تدّعي إيران أنها تريد تحرير فلسطين دون الأخذ بالاعتبار أن تلك مسألة سوف تتحقق بعد حين عن طريق العرب لا عن طريق غيرهم. أما عن وعود إيران بالتحرير فمن الجدير سؤالهم: من الآن حتى يتحقق الأمر بعد سنوات طويلة، ماذا نفعل كعرب؟ هل نتفرج عليكم أم أن علينا مهام يجب القيام بها وأنتم تقوّضون الأسس التي ترتكز عليها هذه المهام؟ لقد سئمنا الكفشلة والخلط في الشعارات المرفوعة والتعمية على الأهداف الحقيقية.
حروب الإرهاب الأميركي في أوروبا أدت الى التخلي عن سياسات بيئية كانت ضرورية لتعكس التغيّر المناخي. الوضع الناشىء لا يؤدي إلا الى ضرب المصير البشري. أحلاف إسلام سياسي سني في المشرق العربي لا تفيد منها إلا الغطرسة القومية الإيرانية.
في العام 1929 حصل إنهيار مالي اقتصادي مركزه الولايات المتحدة التي لم تتخلص منه إلا بعد العام 1939، ونشوب الحرب العالمية الثانية، وازدهار تجارة السلاح واقتصاد الأمر الذي تولته حكومة الدولة الأميركية.
تحتاج الرأسمالية العالمية، ومركزها الولايات المتحدة، إلى العودة إلى سياساتها الامبريالية لحل أزماتها المتكررة كل عقد أو عقدين من الزمن. والآن صارت الأزمة مستمرة. يفشل بالمقابل كل مشروع إنساني لإنقاذ البشرية. ولقد شكّل الاتحاد السوفياتي خيبة أمل كبيرة، هي سبب تراجع اليسار في العالم وصعود النيوليبرالية، التي يدخل في صلب ايديولوجيتها تدمير الدول فيما كان يسمى “العالم الثالث”.. والآن أوروبا. يُلام بوتين ليس لأنه يواجه السياسة الامبراطورية، سياسة القطب الواحد، بل لأنه يشن حرباً توختها الامبراطورية، وافتعلت كل الأسباب لإشعالها. إن الاعتراض على بوتين هو أيضاً اعتراض الشعب، أو الشعوب الروسية عليه، بسبب الحروب التي يشنها. إذا كانت الامبراطورية العظمى تريد الحرب لأسباب تتعلّق بالمال والسلاح، فإن شعوبنا تريد غير ذلك.
حتى لو انتصر بوتين في أوكرانيا، والانتصار لن يكون باهراً، فإنه يكون قد حقق الهدف الأميركي في بقاء القطب الواحد مميزاً. الوجه الآخر لهذا التميّز يظهر في منطقتنا حيث يعقد مؤتمر لدول عربية وإسلامية تحضره الولايات المتحدة وتغيب عنه إسرائيل، مع حضور شبحها.
إرهاب تمارسه الامبريالية الأميركية يؤدي الى إرهاب دولنا وإخضاع شعوبنا وجرها الى منازعات وحروب تؤدي الى مزيد من الخراب والدمار والقتل والتشريد. معارضة هذا الإرهاب والنضال ضده غير كافيين حتى الآن. تنجح الامبريالية ونفشل نحن.
الفضل شلق