محمد الماغوط: فشلنا حتّى الخيانة
ما هو الشيء الذي كان سيكتبه الشاعر والأديب السوري الساخر محمد الماغوط (1934-2006) لو أنّه بقي على قيد الحياة فشهد الإبادة الجماعية لِفلسطينيي غزة… وهو الذي قضى حياته داعماً للقضية الفلسطينية قولاً وفعلاً؟ الماغوط الذي وُلِد لعائلةٍ فقيرةٍ في ريف السلمية، وأحسّ بالظلم وفقدان العدالة الاجتماعية في قريةٍ انقسمت إلى أقليةٍ من الأغنياء وأكثريةٍ من الفلاحين والرعاة، كبُر وكَبُرت معه فكرة الحرية التي أشار إليها بعبارةٍ بليغةٍ تصف باختصار قساوة الوصول إليها، لكن حتمية اللأخيار في تحمّل هذه المشقة مهما كلّفت، قائلاً: «لو كانت الحرية ثلجاً، لنمتُ في العراء». إذاً كيف ستكون ردّة فعله حيال العجز العربي، الذي دائماً ما سخر منه في كتاباته بغضب، أمام سجنٍ ضيقٍ يعيش فيه أهل غزة، تحوّل منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 إلى محرقةٍ ترتكب فيها إسرائيل أقبح سيناريو للنازية. في هذه الأثناء، يقف العالم متفرّجاً على إبادة عشرة آلاف روحٍ في ما يُقارب الشهر، فمَن نجا من القصف الإسرائيلي الممنهج لم ينجُ من قنابل الفوسفور الأبيض، ومَن نجا من قنابل الفوسفور، لن ينجو من مجاعةٍ قادمة، بعدما مُنعت عن فلسطينيي غزة كلُّ الإمدادات والمساعدات بمباركةٍ صهيو-أميركية عالمية.
حرّم الماغوط، منذ عشرات السنين، على الإنسان العربي إلقاء تحية الصباح الاعتيادية، إذ لا يمكن أن نشعر بالخير وأوطاننا مُحتلّة سواء على نحو مباشر أمْ غير مباشر، علاوة على انعدام سيادة الخير وفلسطين مُحتلّة منذ عام 1948، فكتب مقالاً ساخراً بعنوان «الجاحظ» اقترح فيه تحيات للصباح تُناسب الإنسان العربي. تحيّات حضّه عبرها بطريقةٍ غير مباشرةٍ على المقاومة والثورة لنيل الحرية والاستقلال، فكتب:
«العربي الأول: صباح الخير.
العربي الثاني: صباح لبنان، والضفة الغربية، وجنوب لبنان، وروافد نهر الأردن، وحريق المسجد الأقصى، وضرب المفاعل النووي العراقي، واتفاقية سيناء، وكامب ديفيد، وعقد الإذعان، ومؤتمرات القمة، وخلافات المقاومة، وحرب الخليج، ومجازر صبرا وشاتيلا، ومجازر طرابلس، وقوانين الطوارئ والأحكام العرفية، يا قليل الذوق والتهذيب.
الأول: ماذا فعلت حتّى تثور كل هذه الثورة وترفع عليّ حذاءك؟
الثاني: عربي ويُقال له صباح الخير!
الأول: ماذا يُقال له إذن؟»
أمّةٌ عربيةٌ بأكملها أنفقت سنيناً على تأليف الشعارات الرنّانة وتكريسها في العقل الباطني للمواطن العربي، حتّى كاد أن يردّدها في أعياد الميلاد والأعراس والاحتفالات، وردّد كثيراً منها في أغانٍ عُرفت بالأغاني الوطنية؛ تقف عاجزةً عن ربط أفعالها بأقوالها، وتحويل شعاراتها إلى واقع تُسيّر فيه جيوشها لتحرير فلسطين وإنقاذ أرواح مدنيين لا ذنب لهم سوى أنّهم قرّروا التمسك بأرضهم وجذورهم والدفاع عنها وحيدين أمام عدو همجي متوحش، يُمارس حرباً نفسيةً على مدار عشرات السنين، كأن يلعب مع الأطفال الفلسطينيين المتوجهين إلى مدارسهم لعبةً قذرةً سائلاً طفلاً: «أين تتوقع ستأتي الرصاصة؟ في رأسك؟ أم قلبك؟ هل ستقتلك أم ستسبب لك عاهة دائمة؟». يقف النضال العربي متفرّجاً، وهذا ما عبّر عنه الماغوط سابقاً بذلك زمن «طوفان الأقصى» بعشرات السنين، كأنّه عرّاف يقرأ المستقبل الذي ستبقى فيه الشعارات برّاقة تعلو الفعل والحراك، كأنّه يرى دولاً عربيةً تعقد المهرجانات وتجني الدولارات، بينما يُذبح الفلسطيني على مقربةٍ منها، وتُسبى القضية وتُباح، ذاك المستقبل الذي تحقّق وصار حاضراً، فكتب مُعاتباً ومُستفهماً وساخراً في مقالٍ له حمل عنواناً مجازيّاً «الحديقة قرب الغابة». عبر هذا العنوان، عبّر عن غابة نعيش فيها تسودها شريعة «القوي يلتهم الضعيف»، وممّا جاء في المقال:
«أجمل شعارات هذه الأمة وأعرقها. بل ثوب زفافها الأبيض. ماذا حلَّ بها؟ ماذا بقي منها غير الأزرار الصدِئة والأكمام المتهدّلة والجيوب الفارغة؟ شعارات نقية يُطلقها أناس أنقياء، وبلمح البصر تصبح كثياب عمّال الدباغة، مع أنّ الكلّ يدّعي النظافة وتعقيم اليدين…. ما أذرب ألسنتنا في إطلاق الشعارات، وما أرشق أيدينا في التصفيق لها، وما أعظم جلدنا في انتظار ثمارها، ومع ذلك فإنّ منظر ثائر عربي يتحدّث عن آلام شعبه للصحافيين وهو يداعب كلبه الخارج لتوه من الحمام، أو منظر طفل مُقَنزع في صدر سيارة بمفرده أمام مدرسة خاصة أو حضانة أطفال، وعلى مسافة أمتار من ظلّ سيارته يقف المئات تحت الشمس المُحرِقة بانتظار باص، يلغي مفعول عشرين دراسة ومئة محاضرة وألف أغنية وأهزوجة عن العدالة والاشتراكية. كأنّ هناك من اختصّ في تجويف الشعارات العربية وتفريغها كالخلد من أي محتوى. كأني بهؤلاء وأمثالهم منذ أول مظاهرة عام 1948، اصطفوا على طريق النضال العربي، وكلّ منهم وضع شعاراً من الشعارات في «حلة» ووقف وراءها، وبيده مغرفة وراح يفرغ ما بها كبائع السحلب. وعندما تصبح هذه الشعارات ضجةً بلا محتوى، يعودون إلى الصف مرةً ثانيةً ويقفون رتلاً أحادياً وراء بعضهم كما في النظام المنضم، وكلّ منهم يحمل فرشاة في يمينه وسطل دهان في يساره، ويبدأ بلصق التهمة تلو التهمة على ظهر الذي أمامه، بينما تكون فرشاة الذي وراءه تعمل في ظهره وتلصق عليه ألف تهمة مماثلة، حتّى أصبح ظهر المواطن العربي مع مرور الأيام والعهود والمراحل كواجهة السينما أو لوحة الإعلانات. وفي المقابل، هناك فريق ثالث يتألّم ويخبط كفاً بكفٍ لهذه الحالة ويدعو إلى الشفقة والرحمة بهذه الأمّة، ثم يتلفّت يمنةً ويسرة وينهش منها ثمن سيارة ويمضي، ويأتي آخر ينهش منها ثمن طقم كنبايات، وآخر ثمن مزرعة دواجن، وآخر ثمن كباريه وآخر ثمن شاليه، وآخر محضر بناء، وآخر تعهد قمامات، وهذه خاتم سونيت، وتلك فستان سواريه للصيف، وتلك معطف فرو للشتاء. وهذه الأمة ترتجف كالنعجة في موسم القصاص بعد أن جُرّدت من كل ما يسترها ولم يبقَ منها إلّا الأنسجة والأعصاب».
يواصل الماغوط السخرية من حُكّام العرب وملوكهم الذين ضحّوا بفلسطين، وما زالوا مستمرين حتّى بعد وفاته، ليبقى مقاله «ثالثاً أم رابعاً» صالحاً لقراءته باستخدام مكبرات الصوت في ساحات العواصم العربية والمدن الكُبرى، علّ هذا الصوت يحرّك ضميرهم لإنقاذ أهل غزة والضفّة، وأهل فلسطين وأهل جنوب لبنان وأهل الجولان وكلّ شبر مُحتل عموماً، فيبدأ مقاله مُستفهماً وساخراً: «من يذكر بياناً مشتركاً صدر منذ ضياع فلسطين حتّى الآن في ختام أيّ خلوة أو اجتماع أو محادثات بين أيّ مسؤول أو جهة عربية وبين أيّ مسؤول أو جهة أجنبية، إلّا وأكّد الجانبان أنّ «المحادثات كانت بنّاءة ومثمرة، وبأنّ وجهات النظر كانت متطابقة، وأن التفاهم حول مجمل القضايا كان كاملاً. ومع أنّ الوطن العربي خُرّب، ولم يبقَ فيه حجرٌ على حجر، باستثناء السجون وملاجئ الحكام المحبوبين من شعوبهم، ومع أن المخابرات لم تترك فكاً مطابقاً لفَكٍ في فم كل مواطن يعمل بالسياسة… ومع ذلك فالبيانات العربية المشتركة ما زالت تصدر بالصيغة نفسها، وبالكلمات نفسها، وبالتحية للشهداء نفسها، والاستغباء للأحياء. فشلنا في فلسطين، وفي اليمن، وفي الصحراء الغربية، وفي لبنان… فشلنا في أميركا وروسيا، وفي الحوار العربي- الأوروبي وفي دول عدم الانحياز. فشلنا في الوحدة الملكية والوحدة الجمهورية. فشلنا في هزيمة حزيران وفي انتصار تشرين. فشلنا في البترول وفي الفوسفات وفي الغاز الطبيعي. فشلنا في التضامن وفي الصمود. فشلنا في مؤتمر الخرطوم وفي مؤتمر الرباط وفي مؤتمر جُنيف. فشلنا حتّى الخيانة. ومع ذلك فالبيانات العربية ما زالت تصدر، وفي أول توصياتها الهلع على هذه المنجزات والعمل على حمايتها، وتهديد الاستعمار والإمبريالية من أيّ محاولة للمساس بها، ووعد الشعب العربي بتحقيق المزيد منها.
لماذا نفشل تقدميين ورجعيين، متطرفين ومعتدلين، منتصرين ومنهزمين؟
أولاً… ثانياً… ثالثاً وهو الأهم: المفاوض الأجنبي يجلس إلى مائدة المحادثات، بخاصة إذا كانت تتعلّق بقضية فلسطين، وهو هاضمٌ عبر تاريخه الطويل التراث العربي واللاتيني والإغريقي ومعظم الاتجاهات السياسية والاقتصادية والفكرية في المنطقة وفي العالم، بينما المفاوض العربي يجلس إلى مائدة المحادثات وهو هاضمٌ عبر تاريخه الطويل ألف طنِّ فول وألف خروفٍ مكتّف وفوقها حقوق شعبه وشعب فلسطين».
وفي مقال آخر بعنوان «شهيق وزفير»، يستكمل الماغوط سخريته من عدم جديّة العرب، ومن طريقتهم البالية والمُعلّبة والمستهلكة في إصدار البيانات الفارغة، وفي عقد مؤتمرات تُغرق العرب بمزيدٍ من الهزائم والتنازلات والفشل، ساخراً من انقسامهم وعدم اتفاقهم حتّى حيال قضية العرب الجوهرية، القضية الفلسطينية، فكتب: «… ومع مرور الأيام، وتوالي المؤتمرات يكتشف المواطن المسكين أنّ تأكيد البيانات العربية على أنّ كلّ شيء له ولمصلحته لا يعني أكثر من تأكيد التاجر للزبون بأن المحل محله! وأنّ العرب في نهاية المطاف وبعد كلّ هذه السنين من ارتياد الآفاق شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً، وبعد حضور كلّ المؤتمرات والوقوف إلى جانب الشعوب، في كلّ البلدان والقارات، ليس لديهم أيّ حساب عند العالم إلّا في البنوك.
ولكن ما يؤلم المواطن العربي أكثر من أيّ شيءٍ آخر، هو هذا الإصرار على ربط كلّ ما جرى ويجري في المنطقة من اتفاقيات ومباحثات وتظاهرات ومشاحنات ومصالحات، باسمِهِ وبموافقتهِ: الشعب قرّر. الشعب رفضَ. الشعب يؤكد. الشعب يُحذّر….. ثمّ: هذه الدولة مع الثورة الفلسطينية من دون العمل الفدائي. وتلك مع حركة «فتح» والثورة الفلسطينية من دون العمل الفدائي. وتلك مع استخدام السلاح والعمل الفدائي والثورة الفلسطينية ومشروع ريغان. وتلك ضد العمل الفدائي والعمل السياسي وقمة فاس ومشروع ريغان. وضد اليمين وضد اليسار. وضد كلّ شيء في المنطقة، وتريد أن تقرّر كلّ شيء في المنطقة».
السخرية هي ذروة الألم، فكم كانت ستبلغ درجة السخرية عند الماغوط، لو شهد هذه المجازر التي راح ضحيتها عائلات بأكملها، واستهدفت مدارسَ ومشافي؟ كم كانت ستبلغ درجة السخرية في كتاباته وهو الذي قال وكتب الكثير؟ وبما كان سيخاطب الرؤساء والحكّام العرب الذين يقفون مكتوفي الأيدي، صمٌّ بكمٌ عميٌ، عن صرخات أهل غزة التي سبّبت شللاً حتّى لأنفاسنا، وتركتنا بعيونٍ جاحظةٍ، خجلين من عجزنا وقلّة حيلتنا كأفراد، صرخات فاقت حدود السخرية كذروةٍ للألم، وفاقت معنى السوريالية، وفاقت مأساة الكون:
«هَي أمّي، بعرفها من شعرها»… «تعالولي بالمنام، والله بشتقلكم»… «اسمه يوسف، عمره سبع سنين، شعره كيرلي، وأبيضاني وحلو»… «الأولاد ماتوا قبل ما ياكلوا»… «بينتقموا مننا بالأولاد، معلش»… «رايح أدفن أبوي بسيارتي»… «أولادي تلاتة يا عالم، دوروا، بلكي بلاقي واحد عايش»… «رحتي مْقطّعة يمّا، يا حبيبتي»… «حطّي قلبك، على قلبي يمّه»… «فدا القدس، فدا القدس»… «إذا مِتُ، فأنا لم أمت فداءً لشيء، ولا حتّى لأجل شيء، لقد متُّ مظلوماً وغاضباً جداً.. جداً». رحل الماغوط بعدما تنبّأ بعجزنا، لكنه لم يخن وطنه، بل نحن الذين فعلنا!
كتاب «سأخون وطني»